ماجد ع محمد
لا نتصور بأن الرأي سيكون غليظاً عندما نشير إلى أن النقد الذي يتقطر من جوانبه الشماتة والاستهزاء لا ينتمي إلى النقد المفيد، إنما هو لا يأتي إلاَّ في إطار النيل والتطاول، لأننا تعلمنا بأن من آداب نقد أي منتج أو مشروع أو عمل أو موقف ذكر الايجابيات والمحاسن بدايةً وفي الأخير إيراد المآخذ والسلبيات إن وجدت.
ولا نخفي المتقلي بأن الانتقادات بطعم الهجمات التي طالت جمعية بارزاني الخيرية والقائمين عليها في الفترة الماضية بُعيد فتحها مركزاً للثقافة والتنمية في مدينة عفرين كانت وراء إعمال مقارنة بسيطة بين الجمعية ومن يمثلها، وبين المواقف المسبقة للذين شنوا هجماتهم الفيسبوكية على الجمعية، إذ تبين أن معظم الذين شنوا هجومهم على الجمعية انطلقوا من قاعدة واحدة التقوا فيها جميعاً سواء عن قصد أم عفو الخاطر، والقاعدة تلك ليست بريئة من روائح الأدلجة، باعتبار أن معظم المهاجمين ـ ممن تلحفوا برداء المنتقدين ـ حمَّلوا الجمعية أوزار كبيرة لا هي مسؤولة عن حدوثها، ولا هي التي تسببت بها ولو بنسبة واحد بالمئة، إلاَّ أن كره المهاجمين لمن يحكمون عفرين هو الذي يجعلهم يكرهون كل من يخدم أهل المنطقة ـ رغم الحاجة الماسة للسكان الأصليين اليوم لأي جهة تقدم لهم العون المادي أو المعنوي ـ لأن باعتقاد المهاجمين أن إعطاء أي مساعدة مادية أو سلة غذائية في هذه المرحلة يدخل في إطار شرعنة السلطة القائمة هناك، وهذا لعمري حكم لا يمت للمنطق أو للعدل بصلة.
لأنه بناءً على هذا التصور فعلى الدول المانحة عدم إدخال مواد غذائية للمحتاجين والفقراء في اليمن الخاضع لنفوذ الموالين لنظام الملالي هناك، أو عدم إرسال أية مساعدات لمختلف المناطق السورية باعتبار أن كل مناطق النفوذ في سورية هي عبارة عن سلطات أمر واقع، إذن فهل الأمم المتحدة مخطئة عندما ترسل المساعدات الإنسانية لمناطق سيطرة النظام؟ وهل الأمم المتحدة تناهض الصواب عندما ترسل المساعدات الإنسانية للمدنيين القاطنين في المنطقة الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام؟ فأي معيار هذا الذي يدفع المرء إلى محاربة وصول المساعدات الإنسانية للمحتاجين في مكان ما بحجة تواجدهم في منطقة خاضعة لسلطة مستبدة أو فاسدة أو محتلة!
وعلى كل حال فهذه الظاهرة المرضية في عدم القدرة على رؤية الحدث كما هو أمامنا، لا كما نريد النظر إليه من خلال بتر المشاهِد أو إضافة أشياء أخرى من بنات الخيال للحدث، علّة مشتركة بين شعوب هذه المنطقة التي يلجأ الكثير من نشطائها وليس عوامها فقط في أي موقف أو مناسبة إلى الخلط بين الماضي والحاضر، وعدم القدرة على النظر لشيء بدون مؤثرات خارجية، إذ حول هذه العقدة يذكر الكاتب عارف حجاوي أن “الأحقاد بين الإنجليز والفرنسيين قديمة، وليس بين الشعبين محبة حتى اليوم، لكنهم لا يستحضرون التاريخ في كل لحظة، بل يعيشون ويتعاونون، والعداوة بين الصين واليابان ليست ابنة اليوم، وهي مستمرة على نار باردة، ولكن البلدين كليهما يطور نفسه ولا يسترجع التاريخ العتيق في كل لحظة، وللصين مع الاستعمار الأوروبي قصة أفظع من قصتنا معه، يكفي أن بريطانيا شنت حربين على الصين؛ لأن الصين منعت استيراد الأفيون الذي يُصدّره التجار الإنجليز من مستعمرتهم في الهند” مع كل ذلك لا يستحضر شعوب ونشطاء تلك الدول الأحقاد القديمة في كل مناسبة، ولا يحملون جعبة العقاقير الإيديولوجية معهم في كل مكانٍ يصادفون فيه خصومهم السياسين حتى يدسوها في جسم الحدث أو الواقعة أو يحتفظون بها في جيوبهم الشخصية من أجل رميها بوجه المخالف أينما التقوا به.
عموماً فموقف المهاجمين بدلاً من أن يدفعنا للنظر بفتور إلى خطوة الجمعية الخيرية دفعنا للمقارنة بين من يهاجمونها وممارسات الجهة المفضلة لدى التيار المهاجم، ولو أنهم لم يُعلنوا عن ذلك الميل السياسي بشكل صريح ومباشر، وحيث أن الفرق بين الجهة التي تتبعه تلك الجمعية وبين خصومها السياسيين في البيت الكردي نفسه، هو أن الذين يقفون خلف نشاطات الجمعية إلى جانب الاستعداد الدائم للتضحية بالغالي والنفيس لم يفكروا بعسكرة المجتمع وأدلجته بالرغم من إرثهم الثوري والنضالي الذي يزيد عن مائة سنة، وعندما نقول لديهم الاستعداد فلا نقولها من باب المديح أو التقرب من أحدهم، كما لا نتحدث عن الثورات المتلاحقة ولا حتى عن عمليات الأنفال وما بعدها، إنما نتحدث عن الماضي القريب جداً، إذ من بقي في مدينة أربيل إبان هجمات تنظيم داعش رأوا بأم العين كيف أن الآلاف من سكان المدينة خرجوا منها خشية الوقوع بين براثن الدواعش، بينما في وقت الفرار الأعظم من المدينة نزل أصحاب الكوفيات الحمراء شباباً وشيابا من منطقتهم ووصلوا أربيل للدفاع عنها ضد دواعش الدين.
كما أن الجهة التي تتبعها الجمعية رغم تعرضها لكل أنواع البطش والعدوان فلم يزرع ممثلوها في أحقاف أبنائهم بأن الأوطان لا تبنى إلاّ بالعنف والثأر والسلاح، إنما بالعكس فإلى جانب الكفاح المسلح فقد اهتموا بالعلم وأهله ليس أقل من السلاح، وذلك لإدراكهم بأن الأوطان لا تبنى فقط بالحِراب والقنابل، إنما تُرفع مدامكها بالعلم والمعرفة إلى جانب القيم النضالية المترسخة في أذهان المتعلمين أنفسهم، وذلك بعكس ما قام به الطرف الآخر الذي كان سبباً بأن يترك آلاف الطلبة مقاعدهم في الثانويات والمعاهد والجامعات ليلتحقوا بمن يحملون السلاح، وحيث أنهم بدلاً من حثهم على المعرفة والعلم شجعوا على العنف والإيديولوجيا فحسب، لتصورهم ربما بأن المجتمع لا يحتاج للأطباء والمهندسين والمحامين والمخترعين وأصحاب باقي الاختصاصات العلمية، وأن المجتمع وفق منظورهم الأيديولوجي يكفيه بضعة أناشيد وشعارات وهتافات سياسية، وحيث أن طوابير القرابين لدى الخاقانات أبدى من أرتال الطلبة في الجامعات ومراكز الأبحاث.
بينما بخلاف ذلك فتعطي حكومة إقليم كردستان الأولوية للعلم وطلابه، وتعمل باستمرار للارتقاء بمستوى التعليم عملاً بقول الشاعر إن “العلم يرفع بيوتاً لا عماد لها، والجهل يهدم بيوت العز والكرم”، وحيث تلقى الطلبة الأوائل في الآونة الأخيرة هدايا قيمة ومساعدات مادية للناجحات والناجحين من رئيس الحكومة مسرور البارزاني، كما قُدمت للناجحين منحة من رئيس الإقليم نجيرفان بارزاني لكل الطلاب الأوائل في الاقليم، وهو ما يشير إلى حرص الحكومة على رفعة المجتمع علمياً وتأكيدها على أن هؤلاء الشباب ليسوا فقط وقوداً لدوام عمر السلطة أو الحكومة، بل هم خير من تقوم بإعدادهم الحكومة ليس فقط للمساعدة في تأمين مستقبلهم الشخصي، إنما ليكونوا هم مستقبل الإقليم وقادته في الغد، وذلك بخلاف بعض التنظيمات السياسية التي غالباً ما يكون همها الأساس جعل الرعية تفرح بجهلها المقدس وتحارب العقل والعلم لإبقاء العامة وقوداً لقادة تلك التنظيمات حتى إشعارٍ آخر.