في قرع طبول الفتنة

عزالدين ملا

في الآونة الأخيرة، توقعات المحللين السياسيين والاستراتيجيين عن مجمل الأوضاع والأحداث الراهنة التي تجري على الأرض في منطقة الشرق الأوسط بامتداداته التي دخلت العقد الثاني من فوضى ما سميت بالربيع العربي تتحول إلى اجتهادات قائمة على الخبرة السياسية لكل شخصية أو جهة أو طرف ما، ولكن في المجمل كل تلك التحليلات تهب أدراج الرياح عند ظهور حدث ما مغاير لكل ما سبق من تحليلات، مع ذلك تبقى بعض تلك التحليلات تصيب جزئيات الحدث، أمّا الهدف العام يبقى في رفوف غامضة، لا يعلمها سوى مَنْ خطط وأحكم خيوطها وجعلها شِباك متداخلة، وأغرى أطرافاً عديدة للخوض في غمارها من جهة وإجبار أخرى لدخول معترك الصراع من جهة أخرى، كل ذلك حتى تحقيق هدف المراد الوصول إليه أصحاب التخطيط، والأهم مصالح أقطاب الاقتصاديات العالمية.
 لن أدخل في تفاصيل التحليلات والتفسيرات السياسية، فقد ظهرت الكثير منها، وما يهمني هنا هو الجانب الآخر فيما يتعلق بالخطابات غير البريئة التي تظهر هنا وهناك، والوقوف على نوعيَّتها، وتنبيه الشأن العام في المجتمع السوري إلى خطرها وضررها على مستقبل وطننا سوريا، الأم الحنون التي تستطيع أن تحتضن الجميع بمعية خطابات العقل والحكمة.
 ومن خلال ما نشاهده الآن من أحداث تجري على الأرض في سوريا وفي إقليم كوردستان، لا تخرج في مجملها من انفعالات عاطفية التي تَغلبُ العقل، وهذه تتم إثارتها من خلال مفاعيل محلية وإقليمية ودولية، التي تبثُّ سموم النزاعات من أدواتها على الأرض وتنفخها في عقول وقلوب سكان تلك المناطق من خطابات الكراهية ضد فئة أو أخرى، مما يشتد لدى السكان الحمية فيما بين مكوّنات المنطقة، لتخلق حالة من التأزم وعدم الاستقرار، وما يحدث في كلا البلدين ظاهرياً يدخل في خانة صراع شعبوي محلي، ولكن في الخفاء تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير، هي امتداد للصراعات بين الدول الكبرى والإقليمية، وفي الغالب أساليب الضغط ولي الأذرع، والأحداث الماضية مهدت لكل ما يجري الآن على الأرض.
 يبدو أن منطقة الشرق الأوسط دخلت مرحلة خلط الأوراق المبعثرة أصلاً وترتيبها من جديد، وما يحدث في مناطق الحسكة وديرالزور في سوريا وفي كركوك في إقليم كوردستان تعطي انطباعا أنها لم تأت هكذا عفوية، بل وقعت بفعل فاعل، ولغايات خبيثة وذلك لضرب النسيج المجتمعي بين المكونات المتعايشة، وخاصة بين الكورد والعرب، ونجحوا نسبياً تخريب الممتلكات العامة، أما في الجانب البنيوي المجتمعي لم يحققوا ما كانوا يصبون إليه. فشعوب المنطقة المسالمون لم يعودوا يتحملون المزيد من الويلات والدمار، هم يحتاجون إلى الأمان والسلام، وفي قناعاتهم يدركون أن ذلك لن يتحقق إن لم يتصالح الأخ العربي مع أخاه الكوردي والدرزي والعلوي والآشوري والسرياني، وهكذا إلى أن يعمَّ الحب والوئام.  
 كما أن الأحداث الأخيرة التي وقعت في مدينة كركوك، تعيد الكَرَّة مرة أخرى إلى نقطة البداية، وكأن كل ما حصل من اجتماعات ولقاءات بين مسؤولي إقليم كوردستان والحكومة الاتحادية لم تكن، وكل الاتفاقات والقرارات التي وقِعَت بين الطرفين ضربت بعرض الحائط، إما أنّ كل ما حدث بموافقة ضمنية من الحكومة الاتحادية أو أن فصائل الحشد المرتهنة في حضن إيران لا يمتثلون لقرارات الحكومة، وأنها أي الحكومة الاتحادية غير قادرة على ضبط هذه الميليشيات والفصائل أو أن الحكومة تخضع لضغوطات إيرانية.
 بيد أن الحكمة والحنكة التي تتمتع بها قيادات إقليم كوردستان وخاصة الزعيم مسعود بارزاني تقطع الطريق أمام الامتدادات الحقدية والعنصرية، ويعيدون الكرة إلى ملعب التفاوض والتوافق للبدء من جديد، وخلق فرصة جديدة لعلَّ وعسى أن يحتكم مسؤولي الحكومة الاتحادية إلى طريق الصواب والعقلانية والوصول إلى بر الأمان يحقق التقدم والرقي للبلد إلى جانب تحقيق التعايش السلمي بين جميع المكونات.
 في الجانب السوري، هناك من يقرع طبول الفتنة وخلق حالة كراهية بين مكوناتها، وبث سموم حقدية وعنصرية من خلال خطابات الكراهية التي تفوح من بعض الوسائل الإعلامية كانت أو مؤسسات أو شخصيات، ومع ذلك لا تتعدى صداها نعل حذاء العقلاء من الشخصيات والمسؤولين والقيادات الذين مكَّنوا أدوارهم في عمق المجتمع السوري ولهم صدى في نداءاتهم في عدم الالتفات إلى تلك الأصوات الناشزة، وأن صوت الحب والتسامح الطريق الوحيد لفرض الأمن والأمان والطمأنينة بين جميع المكوّنات ليس فقط في الجزيرة السورية بل في كافة أرجاء الأرض السورية الحبيبة، صوت الحكمة أقوى وأعلى من مهاترات الضعفاء ممن يتسوَّل نفوسهم في خلق حالة عدم الاستقرار لا لشيء، فقط لتمرير أحقادهم من جهة ومصالح الغير من جهة أخرى.
 يتطلب من كافة فعاليات المجتمع في كلا البلدين، الاتزان في اتخاذ القرارات، وعدم الانجرار خلف غايات من يبيتون لهم الشر، والنداءات التي تخرج من أفواه العقلاء تجد صداها في الجانب المجتمعي، لكن غلبة العاطفة المغررة لمن يتلاعب بالأحداث تُحدِث الخلل، مع ذلك لا يجب أن نيأس، فصوت العقل والحكمة تبقى الأقوى وستتغلب عاجلا أم آجلاً.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…