إبراهيم محمود
أتحدث هنا عن الموت، عن الموت الطبيعي، أو ما كان نتيجة حادث، ليكون الحداد في الانتظار، في واجب العزاء، ممثَّلاً في الأهل، المعارف، والأصدقاء، الجيران، وأهل الحي، ومن لهم علاقة معينة بالمتوفى، من يعزّون سواهم بدافع الواجب الإنساني. وكان المناخ، رغم الحزن المسيطر، ملطّفاً، مع تخفيف الحزن هذا، كما لو أن ” رصيد ” المتوفى يتقاسمه كلُّ من حضر، أو يتصل معزياً ومواسياً.
في الموت الطبيعي المقتصر على وفاة واحدة إجمالاً، كان هناك اصطفاف جماعي، بوجدان جماعي موحَّد .
إنما كيف يمكن الحديث عن موت بالجملة، موت ليس للطبيعة، بصورة مباشرة دخل فيه، موت جماعي رهيب، كما في إعمال الإبادة الجماعية، أو القتل الجماعي، كما في ارتكاب المجازر بحق شعب، جماعة ما، وللكرد نصيبهم ” الوافر ” من مثل هذه المآسي التي سجّلت في التاريخ، إلى يومنا هذا ؟
كيف يمكن الحداد، ومن في وسعه أن يقوم بواجب العزاء؟ عزاء ممن لمن، والمأساة جماعية؟ هل يستطيع أحدهم، وهو فرد واحد، أن يواسي جماعة كاملة، في مأساة تشمل إزهاق أرواح كثيرة، بعكس الحالة الأولى؟ نكون هنا إزاء وضعية أخرى، لا يعود العزاء قائماً، إنما هو حداد جماعي، ودخول في وضعية نفسية جماعية، يكون للدولة، أو الجهات المعنية دور فيها، بصدد مفهوم الحداد: مناسبة تكون لها تسميتها، بتاريخ دوري بالمقابل. بالطريقة هذه، يكون النظر إلى الموت مختلفاً، كما يكون النظر إلى القبر مختلفاً، فبين الراقد في قبره إثر جنازة منتظمة، وتخصيص يومين أو ثلاثة حداداً على المتوفى هنا، والذي يتعرض للموت مع غيره في مذبحة جماعية، أو عمل عدواني إرهابي، تزهق فيه أرواح كثيرة، تختلف المعايير، تختلف الأحاسيس، تختلف لغة الكلمات، ومناخاتها.
وماذا عن المثال الأقرب إلينا الآن جميعاً، ونعيش هول حادثة إثر كارثة زلزال قهرمان مرش ” 6 شباط 2023 ” بغضّ النظر عن خلفية الزلزال هذا، وملابساته؟ ثمة مصاب جماعي غطى مساحات جغرافية واسعة. ولا شك أن كل من ” التهمته ” الأنقاض، يبعث على الألم. سوى أن الحديث عن موت جماعي صادم: موت عائلي، موت أهلي يشمل أفراداً كثيراً من العائلة الواحدة، حيث تتحول بناية كاملة إلى مقبرة عمودية تسوَّى بالأرض في انهيارها، كما لاحظنا، كما تابعنا، وكما تأكدنا، في مسرح المصيبة الطبيعية، وكما هو المشهود له بالهول في ” جنديرس ” المثال الأكثر تمثيلاً لهذا الموت الجماعي المعتبَر طبيعياً. كيف يكون مفهوم الحداد، في موت يشمل أفراداً كثيرين من عائلة واحدة، بحيث يصعب وصف المشاعر والأحاسيس؟
أي لون من العزاء يتم في الوضعية الصادمة هذه؟
الكل مصاب، ولو بدرجات، لا أحد يعزّي الآخر، أو يواسيه، كل يعزي نفسه بنفسه، هناك نوع من الهلوسة المرتبطة بفقدان السيطرة على النفس، نوع من الدخول في إهاب نفسي غير مسبوق، على وقع موت حصّاد أرواح تحت الأنقاض، أجساد لاتزال في عهدة الأنقاض، وعيون مركزة عليها مع عجز كامل عن فعل أي شيء. وما في ذلك من اضطراب مشاعر، والذهول الدال على أن هناك ما يتجاوز المعقول بكثير، ودفعة واحدة.
كلٌّ يبكي ضحاياه، يبكي أمواته وقد كانوا أحياء لينتهوا سريعاً. الكل داخل في حداد مع روحه، وليس لأحد أن يأتي ويخفف عنه وطأة المصاب إلا قليلاً. ربما كان هذا التشارك، مع فارق النوعية في أعداد المتوفين لكل طرف، موجّهاً النظر إلى مدى قابلية نفس الناجي من موت محقق، أو المتبقي حياً، لأن ينفتح على الخارج، وهو يجد في نطاق كل مبنى منهار مقبرةً جماعية، من هم مثله، وكل ينظر إلى الآخر، وما يعنيه ذلك بالحرف: هأنذا مثلك، أو هانحن في مصيبة واحدة. ولكنها الكارثة التي تسجَّل في تاريخ عصي على النسيان، حتى بالنسبة إلينا، ونحن شهود على رعب الحادث، واستحالة التعبير الدقيق عما يمكن قوله. ففي وضع كهذا، لن تستطيع أي لغة تحويل ما هو مرئي، ولو في حيّز منه إلى صفحات وصفحات تفيض مشاعر حزن وبكاء ولطم الصدر وندب…إلخ.
الحداد يتنوع، يكون له تصنيف ضمن لائحة تسمي ألوانه، أو درجاته، موتاه: ضحاياه، نوعياتهم، هيئاتهم، تأثيرهم على محيطهم، وما في ذلك من تأثير، هو الآخر يجري تصنيفه، في التعبير المختلف عنه، والموقف من الحياة والموت.
ولعل كارثة كهذه، تعلّمنا، أعني بذلك، تعلّم من لم يسبق له أن عاش أهوالاً كهذه، كيف يتبصر حقائق تمس جوهره كإنسان، ككائن حي محكوم بمؤثرات طبيعية، ومن الآخر، ونظرته إلى الحياة، ومقام الموت، ولا بد أن يكون هناك موقف كهذا: تعليمي، تربوي، واستبصاري، لنكون أكثر حرصاً على حياتنا المشتركة، وفي مواجهة ما يتهددنا جميعاً، دون ذلك، دون ذلك، يعني أن أي حديث عما هو إنساني، وممن يزعم أنه الأقوى ويتغطرس، لا يساوي شروى نقير!