إبراهيم اليوسف
مقاربة من مفهوم الاستقلالية:
يساور مفهوم أو مصطلح- الاستقلالية- أو- الحيادية- أو اتخاذ المسافة الواحدة من طرفين، أو حتى المهنية، الكثير من اللبس، فإنها، وبمرادفاتها المذكورة، أو غير المذكورة، باتت تطرح على نطاق واسع، إزاء التناقضات اليومية التي تفرّخ، وتتكاثر، وتتسيد مشهد الواقع، أمام أعيننا، ككتاب، على نحو خاص، وإن كان الكاتب النزيه سيلتزم بسمة الصدق أثناء تناوله لأية قضية، وإبداء الموقف اللازم، بعيداً عن الزيف والتزوير، وذلك بعد معاينة ما يعرض أمامه، و الإمعان فيه، و تقليب وجوه القضية- أية كانت- كاملة، من دون أي انحياز إلى طرف ما، وهو ما يجب ألا يوقعنا في شِراك الخطر الأعظم الذي يداهمنا، إذ إن- جمالية- كتلة سرطان ما في جسد يجب ألا تغفلنا، عن الحديث عن المصير الذي يهدّد المريض المبتلي، فللاستقلالية فضاء خاص، و يمكن تبنيها ضمن شروط محددة، كأن يكون ذلك في حضرة طرفين، أو أطراف متوازية، ضمن منظومة محددة، ومن هنا، فلا يمكن أن نكون محايدين تجاه نار تنشب في المنزل، ولا عدو يصوب بندقيته إلى أحد الأبرياء في دارنا، أو حتى من حولنا، باعتبارنا، غير مستهدفين!
مؤكد، أن اتخاذ الموقف الصائب يكبِّد صاحبه خسارات فادحة، من قبل من ديدنُهم مقاومة الحقيقة، باعتبار وجودهم مستهدفاً، ليُصنَّف ذو الموقف الصائب، ضمن فئة الندرة، لأنه عبر موقفه الصارم، إنما يبدو في موقع- الخصم- بل العدو، من قبل أعداء الحقيقة، ناهيك عن وجود مزيفين، متسترين، برداء الحقيقة، في الطرف الآخر. الطرف الذي يصنف هو نفسه من ضمنه، إلا إن- خطابه- رغم ما تواجهه من كوابح ومصاعب هو الذي يسجّل له البقاء، فيما إذا استطاع إجلاءه، والمرافعة عنه!
في محاولة التوغل في الصميم:
يواجه الكاتب، صاحب الموقف المبدئي، بين حين وآخر، بعض من يحاول التفذلك، والتلاعب الإنشائي بالعبارات والمصطلحات، أو حتى نتيجة النقل الببغاوي للمقولات الجاهزة، من خلال ممارسة الوصاية عليه، في لحظة الاختلاف البيِّن في الرأي، عبر اللجوء إلى المقولة المكرَّرة، أن على الكاتب أن يكون- مستقلاً- عما يجري حوله، وهي مقولة صائبة، لأول وهلة، إلا إنِّها كثيراً ما تستخدم خارج إطارها، وخلافاً لجوهرها، إذ ينظر إليها من قبل مثل هذا الوصي، من خلال مجرَّد زاوية واحدة، بعد أن يغضَّ النظر هنا وهناك عما يراه، وأن ينتج مادة كتابية ترضي الأطراف كلها، لنكون في التالي أمام إشكال كبير، هو أنه:
لا سبيل أمام إرضاء الجلاد والضحية أو القاتل والضحية، في آن واحد، إلا عبر السكوت، أو تدبيج خطاب تلفيقي توفيقي، كلاعب سيرك، يسير على الحبال!
الكتابة، في حقيقتها امتحان الكاتب، وحريته وسجنه، منجاته وحياته، سقوطه أو إباؤه، وهي في صميمها تعبير عن موقف حياتي إزاء الثنائيات التي تتمُّ: الجمال أو القبح. الخير أو الشر، ولا حياد، لا استقلالية إزاء اتخاذ الموقف من قضيتين متضادتين، إلا في” دماغ” أو عقل من يسعى لإجراء توازنات هدفها الرئيس المنفعة المستجلبة للكاتب، ومن يناصره، وإن راح يسوق، ويمنح هذا التلفيق بعداً جماعياً: قومياً، أو إنسانياً، أو سوى ذلك. ومؤكد، أن من بين هؤلاء الأوصياء من يحرص على مصلحة الكاتب، أو من يحاول الوقوف إلى جانبه لإنقاذه من سطوة خطر معنوي، أو حقيقي على حياته، إلا إنه حتى في هذه الحالة فإن موقف الناصح، ليس إلا نتاج رؤية تلفيقية مزيفة، تهادن الواقع، وتناصر القوي في مواجهة الضعيف!
وللأسف، فإن أنصار هذه النظرة طالما شكلوا، ويشكلون كابحاً، أمام الرؤية الصائبة، والموقف المطلوب، في أية محطة، أو مرحلة، إلى الدرجة التي أصبحت هذه التوفيقية عبارة عن منهج لديهم: يهادنون الظالم و”يهدهدون” المظلوم طالبين منه السكوت، وبات صعباً على كثيرين منهم التخلص من هذه الآفة السلوكية، حتى وإن غدوا في مأمن من كل خطر، أو بعيدين عن ساحة الصراع، من دون أن يكلفوا ذواتهم، بمحاولة تجاوز ما هم عليه، والنظر إلى الأمور بعين دقيقة، فاحصة، منصفة، و لو أن من بينهم من يقول لك: أجل، ما تقوله صحيح، إلا إن الضرورة تقتضي كذا وكذا.
أجل، إن مثل هذه الضرورات ينظر إليها، من قبل بعضنا، إزاء خطر أكبر داهم، ومن بين ذلك إن كان لك ثمة جارٌ يدأب على التجاوزات بحقك، وتعرضت وإياه لخطر أعظم يهدد وجودكما، فإنه لمن اللزام عليك أن تقف معه، لعله يتخذ العبرة مما تم، إن كان ممن يحتكمون إلى العقل، إلا إن ديمومة تقبل المذلَّة من هذا المتجبر- أياً كان- في زمن السلم كما هو الحال في زمن الحرب- تدفعه إلى مفاقمة ظلمه ليتحول إلى طاغية- إن لم يكن طاغية أصلاً- وإن كان من يمارس الظلم، في حدِّه الأدنى سيمارسه في حدوده العظمى، أنى توافرت الظروف، إذ ليس هناك ظالم مقنن الأذى، كما إن من يسعى لإعدام أحد- معنوياً- بسبب خلاف أو رأي، لاسيما إن كان من عداد النخب السياسية، الثقافية، ولا يوفر طريقة لإلحاق الأذى بمن يختلف معه، فهو مجرم في قرارته، باعتبار أن هذا الأخير يعمل بوضوح، متجرِّداً من كل ما هو إنساني، بينما هو يعمل مقنَّعاً، بملامح إنسانية، وربما ما فوق إنسانية- ملائكية- بيد أنه يحمل فيروس الفتك بالآخر في دمه، ويمكن التدقيق في هذا الاستطراد في وقفة أخرى خاصة، لأنني أشير هنا إلى: المجرم، لا إلى من هو مكره على مجاراته، ومسايرته، أو الصمت، في مواجهته، نتيجة ظرف ما، لأن لكل طرف تقويمه الخاص!
وكمثال، عن موضوعة الحيادية، أو الاستقلالية، تجاه المحيط هو أنني أرى أن الطبيب- وأعود هنا إلى مثال استهللت به المقال- لا يمكنه أن يكون حيادياً، أو مستقلاً، تجاه: كتلة سرطان في جسد مريض، إنما عليه أن يستعين بمبضعه لبتره، وأن طبيب الأشعة عليه أن يضع- الصورة الشعاعية- كما هي، وبصدق بين يدي هذا المريض قبل ذلك، من دون مواربة، وإلا فإنه، والطبيب الذي يهادن الكتلة- يعينان بؤرة السرطان على الاندياح والإجهاز على حياة هذا الإنسان!
ومن هنا، نجد، أن بعض هؤلاء الذين لا يجرؤون على إبداء آرائهم، نتيجة خوف من بطش مستبد ما، أو نتيجة حرصهم على منفعة ما يتشدَّقون بتمسكهم بشعار، أو خيار الاستقلالية الذي يتحول إلى ذريعة، أو مطية، للتهرُّب من مجابهة المتجبر، أو الظالم.
عود على بدء:
أجل، إن الاستقلالية جدّ مهمة، ومطلوبة، ضمن شروط محددة، بيد أنها ليست قانوناً، أو قاعدة، صالحة للتعميم، أمام كل ما نواجهه، فالحياد المخبري، أثناء مزاولة البحث العلمي أمر بدهي، بيد أن الاستقلالية لا تصلح لأن تكون كمامة أفواه، تمنعنا عن أداء واجبنا التنويري- كشريحة أو نخبة لايزال هناك من يعول علينا على نحو مباشر- إذ إن المتجبر- عادة- يسعى لتأصيل، وتكريس ضرورة استقلالية الكاتب، بعد أن ضمن لذاته جيشاً من الذين يرافعون عنه، أفراداً، أو حتى من هم محسوبون على النخب الثقافية، ويهمهم إسكات من يلجأ إلى- نقدهم- ضمن شروط النقد. ضمن إطار دواع عديدة، من بينها: الاستقلالية التي لا يطلبونها ممن يرافعون عنهم، وهم- بهذا- يكرِّسون إلغاء النقد- النقد الفعلي، لا الكيدية المغلفة بقشور النقد، سواء أكان ذلك عن غباء وجهل، أو عن لؤم ومهارة!