أضحت مسألة طبيعة وحجم مشاركة أكراد سوريا في خضم الثورة السورية بين الفينة والاخرى مثار جدل وبحث بين مجاميع النخب السياسية والاعلامية في الساحة السورية على وجه الخصوص, والمتابعين للشأن السوري على المستوى الخارجي عموما.
واعتقد أن كلا الرأيين يجافيان الواقع والحقيقة, الأول عندما يحاول تضخيم المكون الكردي في سوريا ككتلة بشرية وامكانيات سياسية ومادية على أرض الواقع الى درجة لعب دور الحسم في اسقاط النظام.
والثاني عندما يسعى الى تصور مفاده بأن الاكراد لم يساهموا قط في الثورة أو أن مساهمتهم فيها لا تستأهل الاشارة اليها, وان دورهم يقتصر على المشاهدة والانتظار.
الحقيقة ان الغالبية الساحقة من ابناء الشعب الكردي في سوريا يتمنون الخلاص من النظام الراهن اليوم قبل الغد, وقد ترجم الاكراد ذلك مرارا وتكراراعلى مر تاريخهم الحديث والمعاصر منذ 1957 سنة تأسيس اول حزب سياسي كردي في سوريا الى تاريخ اليوم, حيث ان مجمل الاهداف التي كانوا وما زالوا يناضلون من اجلها كانت تناقض وتعادي طبيعة النظام الاستبدادية ونهجه, وقد ذاق الاكراد في سوريا اكثر من غيرهم الامرين من قبل اجهزة النظام البعثي وتعرضوا لشتى صنوف الاضطهاد والتمييز والقتل المباشر كما حصل في آذار 2004 , وصولا الى اغتيال قادته ورموزه كالشيخ معشوق الخزنوي والمناضل مشعل تمو, وزج الكثيرين منهم في غياهب السجون.
وفيما يتعلق الامر بالثورة الحالية فقد انخرط شباب الكرد في المظاهرات منذ بدايات الثورة والتي كانت تقام وتسير ايام الجمعة , وكانت تتضامن مع باقي المدن والبلدات السورية وتطالب باسقاط النظام وترفع فيها اعلام الثورة والشعارات الوطنية, وكانت تنظم وتدار من قبل شباب التنسيقيات كمنسقية شباب الكرد وتنسيقية شباب الكرد ( سوا ) والمنسقية العامة لحركة الشباب الكرد في سوريا, وقد انضوى الجميع لاحقا تحت اسم اتحاد تنسيقيات شباب الكرد في سوريا التي هي جزء مهم من الهيئة العامة للثورة السورية.
وكما اشرنا انفا كانت الافضلية والالوية للشعارات الوطنية ولأعلام الثورة مع وجود خافت وخجول لشعارات خاصة بالقومية الكردية في حال اسقاط النظام كالاعتراف الدستوري بالشعب الكردي كثاني قومية في البلاد واحقاق حقوقه وحقوق الاقليات القومية الاخرى في اطار سورية المستقبل, سورية ديقراطية تعددية علمانية مدنية, وقد كانت هذه الخطوة مدروسة وممنهجة خشية ان يتهموا في بداية الثورة عند رفعهم وتفضيلهم للشعارات القومية الكردية بتهم الانعزالية والانفصالية وتجنبا لاتهامات السعي بالتقسيم.
لقد ادار شباب اتحاد تنسيقيات الكرد في سوريا اللعبة بذكاء ودهاء يحسب لهم حين انخراطهم في المظاهرات التي اصبغوها في البداية بطابع سوري وطني محض دون اقحام الخصوصية الكردية, لكي لا يتهموا من قبل النظام البعثي الحاكم وكذلك من قبل غلاة القوميين العرب في المعارضة السورية بالسعي الى الانفصال وتشكيل دولة كردية وما شابه من هذا القبيل.
من جهة اخرى بقيت مجمل اطراف الحركة السياسية الكردية في سوريا في بدايات الثورة بمنأى عن المشاركة فيها او حتى ابداء الرأي والموقف الصريح منها , واكتفت بدور المراقب للاحداث وللمظاهرات التي كانت تعم المدن والبلدات الكردية وبدرجات متفاوتة من قبل شباب التنسيقيات , الى حد خشيتها من التفاف الجماهير الكردية اكثر فأكثر وبكثافة حول التنسيقيات, وان تكون البديل الطبيعي لها, علما ان شباب التنسيقيات لم يطرحوا انفسهم في يوم من الايام كبديل عن الاحزاب الكردية التي كانت وما تزال تعاني الافلاس الجماهيري وفقدان المصداقية, والتي كانت من بين الاسباب التي ادت الى سطوع نجم حزب الاتحاد الديمقراطي على حساب افلاسها وفقرها جماهيريا, وفي هذه اللحظة استشعرت الاحزاب الكردية التقليدية الخطورة فبادرت الى انتهاج سياسة ركوب الموجة واللحاق ” بالموضة ” الدارجة والسير مع التيار الجارف باشتراك قلة قليلة من تلك الاحزاب في المظاهرات لتثبيت الحضور ولفت الانظار, الى حين بلورة مواقف واضحة وصريحة من قبل تلك الاحزاب حيال الثورة السورية واعظم اهدافها وهو اسقاط النظام, وكانت احدى تجليات ذلك التبلور انضوائها تحت سقف المجلس الوطني الكردي في 26 اكتوبر 2011 ومن ثم تحالفها مع حزب الاتحاد الديمقراطي ب ي د في اطار الهيئة الكردية العليا بتاريخ 12 تموز 2012 بايعاز واشراف من رئيس اقليم كردستان العراق السيد مسعود بارزاني.
والواقع لم يستسغ النظام في دمشق الموقف الكردي الرسمي والشعبي, فعاد الى لعبته القديمة الجديدة في خلق الفتنة والشرخ في داخل البيت الكردي بالتنسيق مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا وتأييده ودعمه لوجستيا واطلاق العنان له في معظم المناطق الكردية بعد انسحاب النظام الطوعي والمؤقت منها في عملية اشبه ما تكون بالاستلام والتسليم, وذلك لضبط ومراقبة والسيطرة على حركة المظاهرات ومجمل التحركات والنشاطات السياسية المناوئة للنظام في المناطق الكردية من قبل الحزب الكردي, كون النظام كان قد شحذ كل طاقاته وامكاناته في مواجهة الثورة في المناطق الاكثر سخونة كدمشق وحلب, كما اقدم النظام عبر عملائه على تصفية رمز الحراك الثوري الكردي مشعل تمو, اعتقادا منه انه باستخدام هذه الاساليب سيتمكن من لجم الحراك الثوري في الشارع الكردي.
وقد بادر النظام قبل ذلك الى اظهار حسن النية ومحاولة مغازلة الاكراد عندما اعاد الجنسية الى مئات الالاف من المجردين منها, وتغطية اعلامه ولاول مرة للعيد القومي للاكراد نوروز, في محاولة خائبة لاستمالة الاكراد او على الاقل تحييدهم.
لم يفلح طريقة العصا والجزرة التي اتبعها النظام في وقف او ابطاء وتيرة المظاهرات المعادية للنظام في المناطق الكردية رغم محدوديتها الجغرافية والبشرية, الا ان التحرك الكردي في الثورة السورية اتسم منذ البداية بخصوصية اصبحت صنوا للاكراد ولقضيتهم القومية العادلة, لم يصطنعونها او يدعونها او يتظاهرون بها, لا بل هي التي باتت تحكمهم وتدير بوصلتهم في كل تحرك عملي ميداني او في اي موقف سياسي مطلوب منهم.
الاكراد في سوريا وطنيون سوريون بامتياز والتاريخ القديم والحديث خير شاهد على ذلك يحملون ويتحملون الهم الوطني, كما انهم قوميون كردستانيون لا يستطيعون الاغفال عن حلمهم القومي العتيد شأنهم في ذلك شأن اخوتهم في باقي الاجزاء.
الانخراط الكردي الشعبي والرسمي في الثورة السورية له اسبابه ومحدداته وقد يتوسع ويتمدد افقيا وذلك وفقا للظروف والمستجدات , وحسب مواقف المعارضة السورية المتنوعة من قضايا كثيرة ومنها القضية الكردية, وقد ينحسر هذا الانخراط وينكمش تبعا ايضا للمعطيات والوقائع, وذلك كله استنادا الى نظرة براغماتية واقعية.
يتحرك الاكراد وفقا لحسابات واجندة وتكتيكات خاصة بهم , وهم لا يجدون غضاضة في ذلك ولا يترددون في المجاهرة بتلك الخصوصية التي تحكم مواقفهم وسياساتهم, وهم يحاصصون الولاء هنا مناصفة للوطن سوريا ولخصوصيتهم القومية التي عانوا بسببها الويلات على مر العقود المنصرمة على ايدي الانظمة الاستبدادية المتعاقبة, وهم يدركون تماما ان مجرد التخلص من النظام القمعي الراهن هو بحد ذاته خطوة نحو حلحلة قضيتهم, علما ان هاجس الخوف والقلق من القادم والبديل يقض مضاجعهم, وخاصة بعد انكشاف اقطاب من المعارضة السياسية السورية الاسلامية والقومية عن نياتها ومواقفها التي تجلت في عدة مؤتمرات خاصة بالمعارضة السورية في تونس ومصر واسطنبول والتي لم تخف عن امتعاضها من المطالب والتوجهات الكردية.
من جهة اخرى اعتقد ان الاكراد كمكون بشري وثاني قومية في سورية يزيد تعدادهم على ثلاثة ملايين نسمة, وبما يمتلكونه من امكانات سياسية ومادية وكونهم بعيدين عن المؤسسات العسكرية والمدنية للدولة , لا يستطيعون لعب الدور الحاسم والجولة القاضية في المعركة التي تدار رحاها في سوريا كما يحلو للبعض تخيله, والصراع في الحالة السورية غالبا وكما تشير التوقعات سيحسم في المراكز دمشق وحلب , مع الاخذ في الحسبان بان المسألة السورية عموما ومستقبل نظامه السياسي اصبح مرهونا بالاجندة الدولية والاقليمية.
لقد اثبت الاكراد حتى اللحظة نجاعة مواقفهم حيال الازمة الراهنة التي تعصف بسورية, واداروا الجولة بحكمة وروية, فلم تتوقف الاحتجاجات في مناطقهم منذ اندلاع الشرارة الاولى للثورة في آذار 2011 , منصبين جهودهم في الوقت عينه على ابقاء المناطق الكردية بعيدة عن اعمال العنف والتدمير الممنهج التي تقوم بها قوات النظام بحجة محاربة عناصر الجيش الحر, الذي بدوره عليه ان يراعي ويأخذ على محمل الجد المطلب الكردي, وألا يقحم المناطق الكردية في دائرة الصراع المسلح مع النظام, وتجنبا للتصادم مع قوات حماية الشعب الكردية, الامر الذي يتمناه النظام حصوله ويسعى الى تحقيقه بشغف.
شاءت الاقدار والظروف هذه المرة ان تأتي الرياح بما تشتهي السفن الكردية, فهل سيبقى الربان الكردي صامدا الى النهاية في وجه الاعاصير الهائجة والامواج العاتية القادمة من كل حدب وصوب.