د.
أحمد محمود الخليل
dralkhalil@hotmail.com
أحمد محمود الخليل
dralkhalil@hotmail.com
معرفة الحقائق خطوة أساسية لنجاح الأفراد والأمم، ومن الحقائق التي أثبتها العلم- على الأقل منذ عهد العالم البريطاني تشارلز داروين- هو أن كل شيء حيّ يخضع لقانون (الانتخاب الطبيعي)، وأن البقاء هو في النهاية للأصلح أيْ للأقوى، وكل كائن حيّ لا يمتلك القوة اللازمة للفوز في هذه المعركة الوجودية الكبرى والشاملة، ينتهي به الأمر إلى الزوال عاجلاً أو آجلاً.
أربع حقائق تاريخية:
تلك هي الحقيقة الوجودية الكبرى، وتتفرع عنها أربع حقائق أخرى بالغة الأهمية:
الحقيقة الأولى: كانت الجغرافيا- بدلالتها البيئية والاقتصادية والجيوسياسية- موضوعاً للصراع بين الشعوب منذ فجر التاريخ، كان كل شعب يسعى إلى امتلاك الجغرافيا الفضلى، ومن أجل ذلك انطلقت الغزوات ونشأت الإمبراطوريات، وكانت القوة هي العامل الذي حسم الصراع لهذا الفريق أو ذاك.
الحقيقة الثانية: لا يزال الصراع على الجغرافيا مستمراً بين الشعوب، فها هي شعوبٌ تستعمر شعوباً أخرى، وها هي دولٌ تتسابق للسيطرة على القطبين الشمالي والجنوبي وعلى أعماق البحار وعلى الفضاء، وما زالت القوة الخشنة (العسكرية) والقوة الناعمة (الأيديولوجية)- حسب تعرف هيرفريد مونكلر في كتابه (الإمبراطوريات، ص 103)، هي العامل الأهمّ في حسم الصراع.
الحقيقة الثالثة: منذ حوالي سنة (2000 ق.م) كان غربي آسيا- من إيران ضمناً إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط- مسرحاً للصراع على الجغرافيا، سواء بين شعوب المنطقة نفسها (أكاديين، أسلاف الكرد، بابليين، آشوريين، حِثِّيين، آراميين، كَنعانيين، عبرانيين، كِلدان، فُرس، عرب)، أم بين الشعوب الغازية من الخارج (مصريين، يونان، رومان، روم، مغول، تَتار، ترك، فرنج، استعمار أوربي)، ومرة أخرى كانت القوة بشكليها (الخشنة/الناعمة) هي العامل الأكثر فاعلية في حسم الصراع لهذا أو ذاك.
الحقيقة الرابعة: تتوسط كردستان منطقة غربي آسيا، وكان كل غازٍ يودّ العبور إلى أيّة جهة في غربي آسيا، مضطراً- من الناحية الجيوسياسية- إلى فرض سلطته على كردستان، وإلا فإن مشروعه الغَزَوي كان يبقى ناقصاً، وفي التاريخ أدلة كثيرة على ذلك، وإن بقاء كردستان إلى الآن محتلّة ومنقسمة بين أربع دول هو من آثار الصراع المحموم على الجغرافيا.
والخلاصة أن القوة- بمختلف أشكالها ومستوياتها- هي العامل الحاسم في امتلاك الجغرافيا، وأن بقاء كردستان محتلة يعني افتقار الكرد إلى القوة الكافية لحماية وطنهم، ولا يمكنهم تحرير وطنهم القومي إلا بامتلاك القوة الشاملة.
وثمة عاملان آخران مهمّان، يجعلان حاجة الكرد إلى القوة الشاملة ماسّة جداً:
أولاً- نوعية محتلّي كردستان: إن المحتل الأوربي في القرنين (19، 20) احتل جغرافيا الشعوب لأغراض ثلاثة: استغلال الموارد الاقتصادية (زراعة، معادن، بترول)، واستغلال الموارد البشرية (موظفين صغار، عمال، جنود)، واستغلال الموقع الجيوسياسي، إنهم كانوا روّاد الحضارة، وأقاموا في البلاد المستعمَرة بنى تحتية للتنمية، ولم يقضوا على لغاتها وثقافاتها، ولما ثارت عليهم الشعوب المستعمَرة، وقف بعض برلمانييهم وشعبهم إلى جانب الشعوب المستعمَرة ضد حكوماتهم، وشكّلوا عامل ضغط مهماً، ولم ير المستعمِر بدّاً من الخروج، وترك الوطن لأهله.
أما محتلّو كردستان فهم أكثر من مستعمِرين، إنهم يمارسون الاحتلال الاستيطاني بأبشع أشكاله؛ ويجرّدون الشعب من حقه في وطنه، وينهبون الموارد، ويحوّلون الشعب إلى أقنان، ويقضون على الثقافات القومية، ويخططون لصهر الشعوب وإبادتها، إضافة إلى الإفقار والتجهيل والبطش والإذلال، إنهم ينحدرون من سلالات شوفينية متوحّشة، لا يهمّهم سفك دماء شعوبهم ولا سفك دماء الشعوب الأخرى، المهمّ هو تنفيذ مشاريعهم الاستيطانية، والأخطر من هذا أنهم رسّخوا في شعوبهم ذهنيةَ الغزو، وربّوهم على ثقافة إنكار الآخر، وأصبح القسم الأكبر من شعوبهم مثلهم، تعالوا نتساءل: كم من الفرس والترك والمستعربين وقفوا ضد مشاريع البطش والتشريد والصهر التي نفّذتها أنظمتهم الفاشية ضد الكرد؟
ثانياً- طبيعة النظام الدولي: ما تزال (القوة) هي الأساس الذي يقوم عليه النظام الدولي المعاصر، وليس (الحق)، وإن (المصالح) هي التي تتحكّم في السياسات العالمية وليس (المبادئ)، وإن ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان تبدو إلى الآن عاجزة عن تصحيح هذه المعادلة، وتقديم (الحق) على (القوة)، وتغليب (المبادئ) على (المصالح)، لاحظوا أن الدول الخمس التي تحتكر حق النقض (ڤيتو) في مجلس الأمن (أمريكا، إنكلترا، فرنسا، روسيا، الصين) هي الدول التي تمتلك أكبر كمّ من القوة المدمّرة، وليس سويسرا ولا السويد، وهناك عشرات الأمثلة على دور القوة والمصالح في التعامل مع مشكلات الشعوب، وإلا فما معنى أن يقف النظام الدولي المعاصر ضد حق الكرد في إقامة دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني؟ وما معنى أن يصنّف حزب العمّال الكردستاني المدافع الوطن الكردي في خانة (الإرهاب)؟
ضرورة القوة القومية الشاملة:
إن جميع ما سبق لا يدع مجالاً للشك في أن امتلاك (القوة) هو الطريق إلى امتلاك (الحق)، ولا فائدة مطلقاً من ذرف الدموع على أعتاب الشوفينيين والقوى الكبرى المهيمنة على العالم، قال السياسي الإيطالي نِقولا مكياڤللي: ” أثبتت الأيام أن الأنبياء المسلّحين قد احتلوا وانتصروا، بينما فشل الأنبياء غير المسلّحين” (نيقولا مكياڤللي: الأمير، ص 82)، تلك هي الحقيقة، بقدر ما تكون قوياً تكون صاحب حق، وتكون مبجَّلاً عند الآخرين، وفي أربعينيات القرن الماضي كان كردي اسمه (رَشُو) يدور في قرى الكرد شمال شرقي حلب، ويردّد “Zor zane, devî tifangê mor zane“، كانوا يصفونه بالمجنون، أما أنا فأقول: مرحى لك يا عمّنا رَشو! لقد كنت أحكم الحكماء!
أجل، طوال القرن العشرين قدّمت أمتنا قوافل الشهداء، وصرخت نساؤنا بحُرقة (هاوار! هاوار!) آلاف المرات، وذرفن سيولاً من الدموع، ووصل صراخ أطفالنا إلى عنان السماء، لم يرحمنا الغزاة قطّ، هربنا إلى الكهوف فأضرموا فيها النيران وسدّوها علينا، لجأنا إلى الجبال فاقتلعونا منها وشرّدونا في البراري، ساقونا كالحيوانات وطمرونا في الرمال، أعلنوا علينا حروب الإبادة، دكّوا قرانا بطائراتهم، رشّونا بسلاحهم الكيماوي، فعل بنا الشوفينيون كل ذلك ليس فقط بأسلحة قادة القوى الكبرى، بل بخبرائهم وصمتهم وريائهم وخداعهم أيضاً، أولئك وهؤلاء فعلوا بنا ذلك لأننا كنا نفتقر إلى (القوة)، ولا شيء غير ذلك، وإليكم- يا ساستنا المحترمين- بعض الآليات التي أظن أنها تمنحنا القوة الرادعة.
أولاً- أسّسوا المرجعية القومية العليا: ساستنا المحترمين! لا أشك مطلقاً في إخلاصكم القومي، وأقدّر جهودكم القيّمة في إطار مشروعنا التحرري، ولذلك أقول لكم مُخلِصاً: حذارِ من التمترس في الخندق الحزبي، انتقلوا إلى الخندق القومي، وحّدوا الأحزاب في كل جزء من كردستان ضمن جبهة قومية، ثم انتخبوا (هيئة قيادية مشتركة) في كل جزء، ثم لتقم الهيئات القيادية الأربع بتشكيل هيئة قيادية عليا باسم (المجلس الكردستاني الأعلى)- أو بأي اسم آخر- كي يقوم بدور (المرجعية القومية العليا) داخلياً وخارجياً، رؤيةً وموقفاً وقراراً، وهذا هو الركن الأول من أركان القوة الرادعة.
ثانياً- احشدوا طاقات الجماهير: أقول لكم بصدق، وبناءً على مراجعتي لتاريخ شعبنا، وبعيداً عن الغرور والاستعلاء: إن في شعبنا طاقات هائلة، إنه يتميّز بالطيبة والذكاء والحيوية والإخلاص والإقدام والفداء، صحيح أن الاحتلالات أحدثت في شخصيته بعض الاختراقات والتشوّهات، لكن كتلته الأساسية ما زالت صلبة، أجل، إن جبال زاغروس وآگِري وطوروس، لم تندثر تحت ضربات المحتلين، ما زالت قممها شامخة، تعتنق إشراقة شمس آهورامزدا كلَّ صباح، وكذلك هو شعبنا، ولو لم يكن كذلك هل كان قادراً على إشعال الثورات واحدةً تلو أخرى منذ بدايات القرن التاسع عشر؟ إن ما تحتاجونه- يا ساستنا المحترمين- هو توحيد شعبنا تحت قيادة عليا، وإعادة ترميم شخصيته، وحشْد طاقاته، وتوظيفها بحكمة في معركة التحرير، وهذا هو الركن الثاني من أركان القوة الرادعة.
ثالثاً- أوجدوا قوة قتالية قومية: محتلّو وطننا شوفينيون مختلّون، إنهم يرفعون أنبل الشعارات ويقومون بأنذل الممارسات، هم غير قادرين على فهم قول المسيح “مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا” (إنجيل مَتّى، أصحاح 5، آية 39)، إنهم لا يفهمون إلا لغة القوة الباطشة، لاحظوا كيف فرّ أحد جبابرتهم إلى الجُحر عندما رفعت أمريكا عصاها الغليظة في وجهه؟ لذا من الضروري أن يكون لكل جزء من كردستان قوة قتالية مستعدّة لردع المحتلين، ومن الخطأ أن يُلقي أبطالنا في الشمال والشرق السلاح حسبما يريد المحتلون، ومن الخطأ أن يثق شعبنا في الجنوب بالتحالفات السياسية فقط، يقول موريس روبان:” يجب إظهار القوة، حتى لا تكون هناك حاجة إلى استخدامها” (موريس روبان: تاريخ الأفكار السياسية المقارن، ص 44)، أجل، ينبغي أن يرى المحتلون رأس العصا من تحت عباءتنا، وإلا فلن يرتدعوا، وهذا هو الركن الثالث من أركان القوة الرادعة.
رابعاً- أكثروا من صناعة الأصدقاء: أفلح المحتلون طوال قرون في عزلنا عن العالم، وفي تصويرنا على أننا شعب همجي، يمارس اللصوصية وقطع الطرق والبطش بالرحّالة والجيران المسيحيين، أما هم فأقاموا الصداقات على امتداد العالم، واستعانوا بأسلحة أصدقائهم وبخبرائهم ونفوذهم السياسي للفتك بنا، لذا من الضروري أن نغيّر هذه المعادلة، علينا أن نبني الصداقات إقليمياً وعالمياً، ونفضح توحّش المحتلين ونذالاتهم، وقد أفلحنا إلى حدّ ما في هذا المجال، لكن ما زال الشوط طويلاً، ولا يكفي أن نصبّ تركيزنا على العلاقات الرسمية مع الأحزاب والدول فقط، علينا أن نوسّع الدائرة، ونبني الصداقات مع الشعوب، ولا تقع هذه المهمّة على كواهل ساستنا فقط، وإنما من واجب كل كردي أن يكون سفيراً لأمته حيث كان، ويبني علاقات طيبة مع الآخرين، ويكسب ودّهم، وهذا هو الركن الرابع من أركان القوة الرادعة.
خامساً- أوجدوا إعلاماً قومياً فاعلاً: لا يكفي أن نجلس بين أربعة جدران، ونتحدّث إلى أنفسنا، ونندب حظّنا، نحن بحاجة إلى إعلام قومي نشيط وذكي وفاعل وشامل، يقودها متخصصون أكْفاء، يمتازون بقدر كبير من الثقافة، وبرؤية قومية رحيبة، وبحس قومي أصيل، لاحظوا- يا ساستنا المحترمين- كيف يوظّف الشوفينيون آلتهم الإعلامية الهائلة لخدمة مشاريعهم الاحتلالية، إنه يحوّلون نذالاتهم إلى قداسات، ويصنعون من الفِسيخ (سمك متعفّن) شَرْبات كما يقول المثل المصري، وفي الوقت نفسه يشيطنون كل ما يتعلق بحقوقنا في وطننا وهويتنا ومستقبلنا.
من الخطأ- يا ساستنا المحترمين- التقوقع في الإعلام الحزبي، أو الانجراف مع تيار الإعلام الساذَج والهابط، إننا أمة تمرّ بحالة استثنائية، ونحن أصحاب مشروع قومي تحرري، وفي هذا المستوى ينبغي أن يكون إعلامنا القومي شكلاً ومضموناً وأداءً، ينبغي أن يوظَّف إعلامُنا داخلياً لتعميم المعرفة الصائبة، وربط الأجيال بالتراث القومي، وترسيخ القيم النبيلة والأصيلة في شعبنا، وتطوير الحس القومي المشترك، وتكوين الرؤية القومية المشتركة، وتهيئة العقول والقلوب لاتخاذ الموقف الواحد والقرار الواحد.
وينبغي أن يوظَّف خارجياً لتعريف العالم بشعبنا وتراثنا وبحقنا في وطننا ومستقبلنا، ولكسْب الأصدقاء لنا على الصعيدين الإقليمي والعالمي، وهذا هو الركن الخامس من أركان القوة الرادعة.
ساستنا المحترمين، لا أود الإطالة أكثر، لكن اسمحوا لي أخيراً أن أضع ما قاله الفيلسوف البريطاني جون ستوارت ميل أمامكم، فقد قال: “إن المَثل القائل بأن الحقيقة تنتصر دائماً على الاضطهاد، هو واحد من الأكاذيب المُفرِحة التي يكرّرها الناس مرّة تلو أخرى، حتى تتحوّل إلى ملاحظة بليدة، … التاريخ يَعجّ بالأمثلة عن الحقائق التي قمعها الاضطهاد” (جون ستوارت ميل: عن الحرية، ص 48).
واسمحوا لي- يا ساستنا المحترمين- أن أضع بين أيديكم أيضاً قول الثوري الفرنسي ميرابو: “ما دام هناك مجتمع من الأغنام، فلا بد أن تحكمه حكومة من الذئاب“، وكي لا يظل وطننا محتلاًً، وأمتُنا مقموعةً، وكرامتُنا مهدورةً، وكي لا يبقى شعبنا قطيعاً من الغنم تغزوه الذئاب من كل جانب، وكي لا نرمي بأحفادنا إلى الأبد بين أيدي أصحاب الذهنيات الشوفينية المتوحّشة، لا بدّ من أن تكون لنا أوراق الضغط الخاصة بنا، وأقوى ورقة ضغط هي تطبيق فلسفة العم (رَشو): “Zor zane, devî tifangê mor zane“، أجل، إنها امتلاك (القوة القومية الرادعة).
وإلى اللقاء في الوصية التاسعة.
تلك هي الحقيقة الوجودية الكبرى، وتتفرع عنها أربع حقائق أخرى بالغة الأهمية:
الحقيقة الأولى: كانت الجغرافيا- بدلالتها البيئية والاقتصادية والجيوسياسية- موضوعاً للصراع بين الشعوب منذ فجر التاريخ، كان كل شعب يسعى إلى امتلاك الجغرافيا الفضلى، ومن أجل ذلك انطلقت الغزوات ونشأت الإمبراطوريات، وكانت القوة هي العامل الذي حسم الصراع لهذا الفريق أو ذاك.
الحقيقة الثانية: لا يزال الصراع على الجغرافيا مستمراً بين الشعوب، فها هي شعوبٌ تستعمر شعوباً أخرى، وها هي دولٌ تتسابق للسيطرة على القطبين الشمالي والجنوبي وعلى أعماق البحار وعلى الفضاء، وما زالت القوة الخشنة (العسكرية) والقوة الناعمة (الأيديولوجية)- حسب تعرف هيرفريد مونكلر في كتابه (الإمبراطوريات، ص 103)، هي العامل الأهمّ في حسم الصراع.
الحقيقة الثالثة: منذ حوالي سنة (2000 ق.م) كان غربي آسيا- من إيران ضمناً إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط- مسرحاً للصراع على الجغرافيا، سواء بين شعوب المنطقة نفسها (أكاديين، أسلاف الكرد، بابليين، آشوريين، حِثِّيين، آراميين، كَنعانيين، عبرانيين، كِلدان، فُرس، عرب)، أم بين الشعوب الغازية من الخارج (مصريين، يونان، رومان، روم، مغول، تَتار، ترك، فرنج، استعمار أوربي)، ومرة أخرى كانت القوة بشكليها (الخشنة/الناعمة) هي العامل الأكثر فاعلية في حسم الصراع لهذا أو ذاك.
الحقيقة الرابعة: تتوسط كردستان منطقة غربي آسيا، وكان كل غازٍ يودّ العبور إلى أيّة جهة في غربي آسيا، مضطراً- من الناحية الجيوسياسية- إلى فرض سلطته على كردستان، وإلا فإن مشروعه الغَزَوي كان يبقى ناقصاً، وفي التاريخ أدلة كثيرة على ذلك، وإن بقاء كردستان إلى الآن محتلّة ومنقسمة بين أربع دول هو من آثار الصراع المحموم على الجغرافيا.
والخلاصة أن القوة- بمختلف أشكالها ومستوياتها- هي العامل الحاسم في امتلاك الجغرافيا، وأن بقاء كردستان محتلة يعني افتقار الكرد إلى القوة الكافية لحماية وطنهم، ولا يمكنهم تحرير وطنهم القومي إلا بامتلاك القوة الشاملة.
وثمة عاملان آخران مهمّان، يجعلان حاجة الكرد إلى القوة الشاملة ماسّة جداً:
أولاً- نوعية محتلّي كردستان: إن المحتل الأوربي في القرنين (19، 20) احتل جغرافيا الشعوب لأغراض ثلاثة: استغلال الموارد الاقتصادية (زراعة، معادن، بترول)، واستغلال الموارد البشرية (موظفين صغار، عمال، جنود)، واستغلال الموقع الجيوسياسي، إنهم كانوا روّاد الحضارة، وأقاموا في البلاد المستعمَرة بنى تحتية للتنمية، ولم يقضوا على لغاتها وثقافاتها، ولما ثارت عليهم الشعوب المستعمَرة، وقف بعض برلمانييهم وشعبهم إلى جانب الشعوب المستعمَرة ضد حكوماتهم، وشكّلوا عامل ضغط مهماً، ولم ير المستعمِر بدّاً من الخروج، وترك الوطن لأهله.
أما محتلّو كردستان فهم أكثر من مستعمِرين، إنهم يمارسون الاحتلال الاستيطاني بأبشع أشكاله؛ ويجرّدون الشعب من حقه في وطنه، وينهبون الموارد، ويحوّلون الشعب إلى أقنان، ويقضون على الثقافات القومية، ويخططون لصهر الشعوب وإبادتها، إضافة إلى الإفقار والتجهيل والبطش والإذلال، إنهم ينحدرون من سلالات شوفينية متوحّشة، لا يهمّهم سفك دماء شعوبهم ولا سفك دماء الشعوب الأخرى، المهمّ هو تنفيذ مشاريعهم الاستيطانية، والأخطر من هذا أنهم رسّخوا في شعوبهم ذهنيةَ الغزو، وربّوهم على ثقافة إنكار الآخر، وأصبح القسم الأكبر من شعوبهم مثلهم، تعالوا نتساءل: كم من الفرس والترك والمستعربين وقفوا ضد مشاريع البطش والتشريد والصهر التي نفّذتها أنظمتهم الفاشية ضد الكرد؟
ثانياً- طبيعة النظام الدولي: ما تزال (القوة) هي الأساس الذي يقوم عليه النظام الدولي المعاصر، وليس (الحق)، وإن (المصالح) هي التي تتحكّم في السياسات العالمية وليس (المبادئ)، وإن ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان تبدو إلى الآن عاجزة عن تصحيح هذه المعادلة، وتقديم (الحق) على (القوة)، وتغليب (المبادئ) على (المصالح)، لاحظوا أن الدول الخمس التي تحتكر حق النقض (ڤيتو) في مجلس الأمن (أمريكا، إنكلترا، فرنسا، روسيا، الصين) هي الدول التي تمتلك أكبر كمّ من القوة المدمّرة، وليس سويسرا ولا السويد، وهناك عشرات الأمثلة على دور القوة والمصالح في التعامل مع مشكلات الشعوب، وإلا فما معنى أن يقف النظام الدولي المعاصر ضد حق الكرد في إقامة دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني؟ وما معنى أن يصنّف حزب العمّال الكردستاني المدافع الوطن الكردي في خانة (الإرهاب)؟
ضرورة القوة القومية الشاملة:
إن جميع ما سبق لا يدع مجالاً للشك في أن امتلاك (القوة) هو الطريق إلى امتلاك (الحق)، ولا فائدة مطلقاً من ذرف الدموع على أعتاب الشوفينيين والقوى الكبرى المهيمنة على العالم، قال السياسي الإيطالي نِقولا مكياڤللي: ” أثبتت الأيام أن الأنبياء المسلّحين قد احتلوا وانتصروا، بينما فشل الأنبياء غير المسلّحين” (نيقولا مكياڤللي: الأمير، ص 82)، تلك هي الحقيقة، بقدر ما تكون قوياً تكون صاحب حق، وتكون مبجَّلاً عند الآخرين، وفي أربعينيات القرن الماضي كان كردي اسمه (رَشُو) يدور في قرى الكرد شمال شرقي حلب، ويردّد “Zor zane, devî tifangê mor zane“، كانوا يصفونه بالمجنون، أما أنا فأقول: مرحى لك يا عمّنا رَشو! لقد كنت أحكم الحكماء!
أجل، طوال القرن العشرين قدّمت أمتنا قوافل الشهداء، وصرخت نساؤنا بحُرقة (هاوار! هاوار!) آلاف المرات، وذرفن سيولاً من الدموع، ووصل صراخ أطفالنا إلى عنان السماء، لم يرحمنا الغزاة قطّ، هربنا إلى الكهوف فأضرموا فيها النيران وسدّوها علينا، لجأنا إلى الجبال فاقتلعونا منها وشرّدونا في البراري، ساقونا كالحيوانات وطمرونا في الرمال، أعلنوا علينا حروب الإبادة، دكّوا قرانا بطائراتهم، رشّونا بسلاحهم الكيماوي، فعل بنا الشوفينيون كل ذلك ليس فقط بأسلحة قادة القوى الكبرى، بل بخبرائهم وصمتهم وريائهم وخداعهم أيضاً، أولئك وهؤلاء فعلوا بنا ذلك لأننا كنا نفتقر إلى (القوة)، ولا شيء غير ذلك، وإليكم- يا ساستنا المحترمين- بعض الآليات التي أظن أنها تمنحنا القوة الرادعة.
أولاً- أسّسوا المرجعية القومية العليا: ساستنا المحترمين! لا أشك مطلقاً في إخلاصكم القومي، وأقدّر جهودكم القيّمة في إطار مشروعنا التحرري، ولذلك أقول لكم مُخلِصاً: حذارِ من التمترس في الخندق الحزبي، انتقلوا إلى الخندق القومي، وحّدوا الأحزاب في كل جزء من كردستان ضمن جبهة قومية، ثم انتخبوا (هيئة قيادية مشتركة) في كل جزء، ثم لتقم الهيئات القيادية الأربع بتشكيل هيئة قيادية عليا باسم (المجلس الكردستاني الأعلى)- أو بأي اسم آخر- كي يقوم بدور (المرجعية القومية العليا) داخلياً وخارجياً، رؤيةً وموقفاً وقراراً، وهذا هو الركن الأول من أركان القوة الرادعة.
ثانياً- احشدوا طاقات الجماهير: أقول لكم بصدق، وبناءً على مراجعتي لتاريخ شعبنا، وبعيداً عن الغرور والاستعلاء: إن في شعبنا طاقات هائلة، إنه يتميّز بالطيبة والذكاء والحيوية والإخلاص والإقدام والفداء، صحيح أن الاحتلالات أحدثت في شخصيته بعض الاختراقات والتشوّهات، لكن كتلته الأساسية ما زالت صلبة، أجل، إن جبال زاغروس وآگِري وطوروس، لم تندثر تحت ضربات المحتلين، ما زالت قممها شامخة، تعتنق إشراقة شمس آهورامزدا كلَّ صباح، وكذلك هو شعبنا، ولو لم يكن كذلك هل كان قادراً على إشعال الثورات واحدةً تلو أخرى منذ بدايات القرن التاسع عشر؟ إن ما تحتاجونه- يا ساستنا المحترمين- هو توحيد شعبنا تحت قيادة عليا، وإعادة ترميم شخصيته، وحشْد طاقاته، وتوظيفها بحكمة في معركة التحرير، وهذا هو الركن الثاني من أركان القوة الرادعة.
ثالثاً- أوجدوا قوة قتالية قومية: محتلّو وطننا شوفينيون مختلّون، إنهم يرفعون أنبل الشعارات ويقومون بأنذل الممارسات، هم غير قادرين على فهم قول المسيح “مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا” (إنجيل مَتّى، أصحاح 5، آية 39)، إنهم لا يفهمون إلا لغة القوة الباطشة، لاحظوا كيف فرّ أحد جبابرتهم إلى الجُحر عندما رفعت أمريكا عصاها الغليظة في وجهه؟ لذا من الضروري أن يكون لكل جزء من كردستان قوة قتالية مستعدّة لردع المحتلين، ومن الخطأ أن يُلقي أبطالنا في الشمال والشرق السلاح حسبما يريد المحتلون، ومن الخطأ أن يثق شعبنا في الجنوب بالتحالفات السياسية فقط، يقول موريس روبان:” يجب إظهار القوة، حتى لا تكون هناك حاجة إلى استخدامها” (موريس روبان: تاريخ الأفكار السياسية المقارن، ص 44)، أجل، ينبغي أن يرى المحتلون رأس العصا من تحت عباءتنا، وإلا فلن يرتدعوا، وهذا هو الركن الثالث من أركان القوة الرادعة.
رابعاً- أكثروا من صناعة الأصدقاء: أفلح المحتلون طوال قرون في عزلنا عن العالم، وفي تصويرنا على أننا شعب همجي، يمارس اللصوصية وقطع الطرق والبطش بالرحّالة والجيران المسيحيين، أما هم فأقاموا الصداقات على امتداد العالم، واستعانوا بأسلحة أصدقائهم وبخبرائهم ونفوذهم السياسي للفتك بنا، لذا من الضروري أن نغيّر هذه المعادلة، علينا أن نبني الصداقات إقليمياً وعالمياً، ونفضح توحّش المحتلين ونذالاتهم، وقد أفلحنا إلى حدّ ما في هذا المجال، لكن ما زال الشوط طويلاً، ولا يكفي أن نصبّ تركيزنا على العلاقات الرسمية مع الأحزاب والدول فقط، علينا أن نوسّع الدائرة، ونبني الصداقات مع الشعوب، ولا تقع هذه المهمّة على كواهل ساستنا فقط، وإنما من واجب كل كردي أن يكون سفيراً لأمته حيث كان، ويبني علاقات طيبة مع الآخرين، ويكسب ودّهم، وهذا هو الركن الرابع من أركان القوة الرادعة.
خامساً- أوجدوا إعلاماً قومياً فاعلاً: لا يكفي أن نجلس بين أربعة جدران، ونتحدّث إلى أنفسنا، ونندب حظّنا، نحن بحاجة إلى إعلام قومي نشيط وذكي وفاعل وشامل، يقودها متخصصون أكْفاء، يمتازون بقدر كبير من الثقافة، وبرؤية قومية رحيبة، وبحس قومي أصيل، لاحظوا- يا ساستنا المحترمين- كيف يوظّف الشوفينيون آلتهم الإعلامية الهائلة لخدمة مشاريعهم الاحتلالية، إنه يحوّلون نذالاتهم إلى قداسات، ويصنعون من الفِسيخ (سمك متعفّن) شَرْبات كما يقول المثل المصري، وفي الوقت نفسه يشيطنون كل ما يتعلق بحقوقنا في وطننا وهويتنا ومستقبلنا.
من الخطأ- يا ساستنا المحترمين- التقوقع في الإعلام الحزبي، أو الانجراف مع تيار الإعلام الساذَج والهابط، إننا أمة تمرّ بحالة استثنائية، ونحن أصحاب مشروع قومي تحرري، وفي هذا المستوى ينبغي أن يكون إعلامنا القومي شكلاً ومضموناً وأداءً، ينبغي أن يوظَّف إعلامُنا داخلياً لتعميم المعرفة الصائبة، وربط الأجيال بالتراث القومي، وترسيخ القيم النبيلة والأصيلة في شعبنا، وتطوير الحس القومي المشترك، وتكوين الرؤية القومية المشتركة، وتهيئة العقول والقلوب لاتخاذ الموقف الواحد والقرار الواحد.
وينبغي أن يوظَّف خارجياً لتعريف العالم بشعبنا وتراثنا وبحقنا في وطننا ومستقبلنا، ولكسْب الأصدقاء لنا على الصعيدين الإقليمي والعالمي، وهذا هو الركن الخامس من أركان القوة الرادعة.
ساستنا المحترمين، لا أود الإطالة أكثر، لكن اسمحوا لي أخيراً أن أضع ما قاله الفيلسوف البريطاني جون ستوارت ميل أمامكم، فقد قال: “إن المَثل القائل بأن الحقيقة تنتصر دائماً على الاضطهاد، هو واحد من الأكاذيب المُفرِحة التي يكرّرها الناس مرّة تلو أخرى، حتى تتحوّل إلى ملاحظة بليدة، … التاريخ يَعجّ بالأمثلة عن الحقائق التي قمعها الاضطهاد” (جون ستوارت ميل: عن الحرية، ص 48).
واسمحوا لي- يا ساستنا المحترمين- أن أضع بين أيديكم أيضاً قول الثوري الفرنسي ميرابو: “ما دام هناك مجتمع من الأغنام، فلا بد أن تحكمه حكومة من الذئاب“، وكي لا يظل وطننا محتلاًً، وأمتُنا مقموعةً، وكرامتُنا مهدورةً، وكي لا يبقى شعبنا قطيعاً من الغنم تغزوه الذئاب من كل جانب، وكي لا نرمي بأحفادنا إلى الأبد بين أيدي أصحاب الذهنيات الشوفينية المتوحّشة، لا بدّ من أن تكون لنا أوراق الضغط الخاصة بنا، وأقوى ورقة ضغط هي تطبيق فلسفة العم (رَشو): “Zor zane, devî tifangê mor zane“، أجل، إنها امتلاك (القوة القومية الرادعة).
وإلى اللقاء في الوصية التاسعة.
1 – 8 – 2012