عندما يكيل – كيلو – «ماوقتا» بمكيالين

صلاح بدرالدين

  في مقالة له بالشرق الأوسط بعنوان ” ماوقتا ” يستذكر فيها الكاتب السياسي السوري والشيوعي السابق السيد – ميشيل كيلو – بعضا من ” مآثره ” النقدية السابقة للاتحاد السوفيتي في حوارية رمزية مع أحد رفاقه القدامى وهما على متن الطائرة عندما نبهه وطالبه بالكف عن ممارسة النقد حيال الأصدقاء السوفييت وسياسة الحزب الشيوعي السوري لأنه ” ماوقتا ” أي أن الوقت غير مناسب لمثل هذه الأمور مقدما أسبابه وتبريراته لاقناع محاوره مضيفا ” أستعيد هذه الذكرى بمناسبة أحاديث كثيرة عن الثورة الشعبية السورية تتكرر فيها كلمة «ما وقتا».

يقول صوت غالب على الساحة السياسية السورية «ما وقتا» بمجرد أن تطالب بتصحيح مسار يبدو اعوجاجه واضحا لأي عين، أو دعوت إلى مبادرة تخرج عن المألوف والعادي وعن ظاهر الأمور، أو ناقشت مسلمة من مسلمات العقل غير النقدي الكثيرة، أو لمحت ولو من طرف خفي إلى أخطاء ارتكبتها هذه الجهة أو تلك …..”
 الى هنا أجد نفسي متعاطفا من حيث المبدأ مع مايرمي اليه الكاتب من ضرورة استخدام العلم والمعرفة والعقل في التعامل مع كل ظاهرة فكرية وسياسية وثقافية ومحاكاة الواقع بمسؤولية وشجاعة والدعوة الصريحة لتقويم أي اعوجاج بمعزل عن المؤثرات الحزبوية والفئوية والترسبات القوموية والدينية والمذهبية وبالدرجة ذاتها يتمالكني الذهول والاستغراب من حجم المفارقة بين ما يكتبه السيد – كيلو – اليوم ( تاريخ نشر مقالته ) ومامارسه قبله بأيام في العاصمة المصرية  .

 ففي لقاء بالقاهرة كان الكاتب من أبرز منظميه ضم طيفا من النخبة الثقافية السورية بهدف التوصل الى الاعلان عن طرف سياسي سوري معارض جديد وفي معرض النقاشات والمداولات حول مختلف المسائل والقضايا المتعلقة بالقضية السورية كانت القضية الكردية وهي موضوع وطني سوري بامتياز غائبة بالرغم من محاولة طرحها للنقاش واتخاذ الموقف بشأنها وقد أخبرني أحد المشاركين في ذلك اللقاء الذي دام يومين بأن التوجه الغالب لمنظمي الاجتماع وعلى رأسهم السيد – كيلو – كان من دعاة ” ماوقتا ” وأن الظرف غير مناسب لبحث القضية الكردية درءا لاثارة الحساسيات في هذا الوقت العصيب على حد زعمهم .
 لم أتفاجأ من موقف ذلك الطيف الذي يغلب عليه الفكر العروبي التقليدي الشمولي المتأثر بمدرسة حزب البعث والساعي الى التوفيق بين العروبة والاسلام والاشتراكية بصورة انتقائية والذي لايعترف بوجود الكرد السوريين كشعب مقيم على أرض الآباء والأجداد ومن سكان البلاد الأصليين كما لايرى أن الثورة السورية المستمرة جاءت من أجل تفكيك سلطة الدولة الاستبدادية الأحادية واعادة بناء الدولة الديموقراطية التعددية بمشاركة كافة المكونات الوطنية القومية منها والدينية والمذهبية في ظل دستور حديث يضمن مبادىء الشراكة الحقة والحقوق ويعيد الاعتبار لأكثر من نصف الشعب السوري الذي أقصي وحرم وتعرض للقمع والاضطهاد والحرمان وخاصة الشعب الكردي ولكنني استذكرت ما تضمنته صفحات التاريخ بخصوص مقولة أو ذريعة ” ماوقتا ” بشأن الكرد ووجودهم وحقوقهم ومستقبلهم .
  لدى قيام الامبراطوريتين العثمانية والايرانية الصفوية قبل أكثر من خمسة قرون اتفق الطرفان على تقسيم الكرد وموطنهم وكان لسان حالهما يقول تجاه المسألة الكردية ” ماوقتا ” .


 اتفاقية سايكس – بيكو لعام 1916 التي قسمت تركة الامبراطورية العثمانية وأقامت دولا وكيانات قومية ووضعت مصير الكرد في بازار السياسة الدولية وصفقات ترضية الأطراف الاقليمية ترددت حول الاعتراف باالحقوق الكردية وحسمت الأمر بالنهاية باتجاه ” ماوقتا ” .
 في سوريا المستقلة الجديدة مابعد الانتداب التي ساهم الكرد في تحريرها وبنائها وقدموا الغالي والرخيص من أجل السيادة والاستقلال غاب عن ذهن رواد الاستقلال الأوائل من الشركاء العرب أن هناك مكونا آخر غير العرب شقيقا وشريكا يستحق الاعتراف به وحقوقه في الدساتير بل مالوا الى اتباع خيار ” ماوقتا ” .
 بعد قيام ونهوض الحركة الوطنية السورية بأطيافها القومية والاسلامية والشيوعية وعلى مدى عقود متتالية تجنبت الخوض في القضية الكردية وخلت برامجها حتى من ذكر الكرد وبان الأمر وكأن هناك اتفاق سري بينها لتجنب الاشارة الى الموضوع الكردي رغم أن بعضا منها كان يضم في صفوفه قادة وكوادر ونشطاء من القومية الكردية ولاشك أن هذا التجاهل والسكوت المريب قد شجعا الأوساط الشوفينية في السلطة أكثر على تنفيذ مخططات التعريب والتهجير والحرمان من حقوق المواطنة وتغيير التركيب الديموغرافي للمناطق الكردية ومن حقنا أن نقول أن تلك الأحزاب والأطياف داخل جبهة النظام وخارجها تتحمل جزءا من مسؤولية المحنة الكردية .
 ان مقولة ” ماوقتا ” حول الشأن الكردي تكاد تكون عنوان مرحلة تاريخية بكاملها فمن خلال علاقاتنا وتواصلنا وكنت من المساهمين في الحوار مع الأطياف والتيارات الوطنية منذ بداية ستينات القرن الماضي كنا نسمع على الدوام صراحة أو مداورة من محاورينا من الشيوعيين والقوميين أن الأولوية لمحاربة الامبريالية وتحقيق الوحدة العربية ولدى تحقيق ذلك ستحل القضية الكردية تلقائيا أما الآن ف ” ماوقتا ” وكنا نرد ياجماعة ياناس لاتطرحوا برامج لحل القضية الكردية بل ساهموا في وقف الاضطهاد والقمع والتهجير واشرحوا للسوريين ثقافيا مسألة الشعوب والقوميات المتآخية والعيش المشترك وقبول الآخر حتى ذلك لم يكن” وقتا ” في نظر اولئك الأصدقاء .
 نعود الى مقالة السيد – كيلو – النقدية المقبولة وموقفه – القاهري – المناقض لماكتب بالتمام والكمال لنعيد نشر جزء مماكتبه ” في مألوف التاريخ، لا بد لانتصار الشعوب من عقلية نقدية تتابع الوقائع وتواجه المعضلات التي تعترض نضال المواطنين في سبيل حريتهم، ولا تسهم عقلية «ما وقتا»، التي تؤجل المشكلات وحلولها وترفض النظر بروح ثورية إلى الواقع، في تعويق انتصارها وربما في هزيمتها..

لذلك تفشل مشاريعها، وتغرق في أوهام تجهل غالبا كيف تخرج منها، مع أنها تعطل قدراتها، وتحول بينها وبين الإمساك بمفاتيح واقعها والتحكم بمساراته، وتفشل بالتالي من حيث كانت تعتقد أنها تقفز من فوق الأخطاء، وتنتصر! ” وهنا أتساءل : ألا تستحق قضية أكثر من ثلاثة ملايين سوري لفتة وموقفا وتداركا ونحن جميعا نزعم اننا في القلب من الثورة السورية الهادفة الى الكرامة والحرية وتقرير المصير حيث شبابنا بتنسيقياتهم متحدون مع نظرائهم في درعا وحمص ودير الزور واللاذقية وحلب وحماه وادلب وكل المناطق الأخرى ؟ ألا تستحق سوريا الجديدة القادمة جهودا من أجل تهيئة شروط انبثاقها معافاة بمعالجة قضايانا وشؤوننا ورسم مستقبلنا وتحديد مسارنا وصياغة دستورنا وشكل نظام حكمنا القادم ؟ ألايجب ومن الآن أن نصيغ معا وسوية أسس وقواعد ومبادىء العقد الاجتماعي بين مكونات شعبنا الوطنية كبديل للاستبداد والاضطهاد والقمع والتسلط ؟

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…