الحرامي يرتبط بالحرام، بما لا يجوز لمسه أو الإساءة إليه، لأنه يخص العام أو الخاص أو يكون متفقاً عليه اجتماعياً.
لكن الحرامي، كمفرد، يستجيب لأكثر من دور على صعيد العلاقات الاجتماعية، حيث إن الحرامي ليس الذي يدخل بيت أحدهم وينهبه قليلاً أو كثيراً أو يسرقه في وضح النهار في مكان ما في وضح النهار، ويصيح المسروق: حرامي..
حرامي، وهو المثال الأقرب إلينا في التوضيح، إنما هو الذي يمكن الشعور به في هذا المكان أو ذاك، في هذا الوسط أو ذاك، وقد أعدَّ عدته ليكون مقلقاً للآخرين، أو مهدداً إياهم، من خلال الإساءة إليهم مادياً أو معنوياً، أو كلاهماً معاً.
ثمة شطارة أو فهلوة أو شجاعة خاصة تضفي عليه قيمة ومكانة وحتى صيتاً وهيبة بالمقابل.
الحرامي المقصود هنا هو الذي “تعد للمائة” قبل إثارة الشك حوله، أو اتهامه بالحرامي، لأن ما يفعله ذو حِرفية عالية.
يمكن الحديث- بلغة الجمع- عن الحرامية الذين يسهل الشعور بهم وإيجادهم في المناسبات المؤثرة في المجتمع، بحثاً عن نجومية معينة، إنهم صائدو الفرص أو منتظرو المناسبات، أو منتهزو اللحظات الحاسمة التي تشير إليهم دون رادع.
يمكن الحديث هنا عن “الحرامية المتأنقين”، ممن يجري التعامل معهم في صفوف متقدمة من المجتمع، أو يكونون في الواجهة فجأة، مباغتي الآخرين، أولئك الذين يكونون في مواقعهم المناسبة، ليكون هؤلاء ليسوا منافسين لهم فقط، وإنما- أخطر من ذلك- ساعين إلى إزاحتهم وإبقائهم في الظل، مستغلين ظروفاً تترى، وفي لحمة اجتماعية فاسدة المرامي.
الحرامية المتأنقون يتكاثرون في المناسبات المختلفة، ولهم أدوار ومُثل وألقاب وأساليب ورايات شتى لتأكيد وجودهم “الحرامي”، وإنما أكثر مما تقدم: يتكاثرون ويتعاضدون كما ينتشرون بطريقة سرطانية في الأزمات، لأنهم يمتلكون القدرة على معاينة الفراغات القائمة، وأوجه الخلل الموجودة، وهم ينسلّون من خلالها، كما أنهم لا يدّخرون جهداً في الوصول إلى مبتغاهم، دون النظر إلى الوراء، لأن أخلاقية الزئبقية والتسلق إلى أعلى فأعلى هي التي تعرّف بهم.
الحرامية المتأنقون، كما هو وصفهم الصفيق، يسهل التعرف إليهم- بعد حين- من خلال نوعية الشياكة الفاخرة أحياناً لهم، أو اهتمامهم بالمظهر للتمويه على كل تفكير يثير شبهة معينة حولهم، أي باعتبارهم عصاميين وذوي أنفة.
الحرامية هؤلاء لا يمارسون نشلاً، أو قطع الطريق على شخص ما، أو تهديده، وطلب مال أو سواه منه، إنما يحاولون منع الذين يتميزون بكفاءات أو جدارة استلام منصب معين، أو أحقية الكلام في هذا الموقع أو ذاك، أو في هذه المناسبة أو تلك، ليأتوا على كل ما يحرم هؤلاء منه، دون المساءلة عما يمكن أن يجري أو يثار عنهم وفيما يخصهم سلوكياً.
الحراميون هؤلاء هم الذين يجبرون الآخرين: مخدوعين، أو منوَّمين، أو موقَّع بهم، إلى تسليم أنفسهم لهم، ووضع مصيرهم بين أيديهم، ليكونوا لسان حالهم، ومرجعهم في السرّاء والضراء، فتكون الغنيمة مستمرة ودسمة وحلالاً زلالا.
إنهم يُكثرون من الحديث عن تكافؤ الفرص، فقط ليحوزوا الفرص، ويعتّموا على مبدأ التكافؤ كما يطعنون في أمره..
يعني ذلك أن الحرامية المتألقين هؤلاء متعددون وذوو مراتب وعناوين خاصة، ويتواصلون مع بعضهم بعضاً، بنوع من المافيا التي تغطي مجتمعاً كاملاً، كما لو أن عقداً مقدساً يتجدد فيما بينهم، فتجد في هذا المنحى: الحرامي المتأنق السياسي والحزبي المخضرم، والداخل جديداً في ثكنة الحزبية، والساعي إلى موقع تحزبي أو عن طريقه، والحرامي المتأنق الاجتماعي صاحب وجاهة تطيح بكل رادع أخلاقي سائد، والحرامي المتأنق الثقافي: الكاتب أو الأديب أو الناقد، أو مدّعي الثقافة والفكر، في جولات وصولات، ومن خلال لقاءات مشتركة، علنية أو سرية، واعتماد نوع من الشراكة في هذه الصفة “الحرامية” وادعاء التمثيل لهذا المستجد، حيثما كانت الفرصة سانحة، رغم أنف المطاح به بالضربة القاضية! يمارس المجتمع دوره الكبير في إفراز “نخب” مختلفة ومتغيرة بالمقابل، من هؤلاء الحرامية، تبعاً لدرجة التغير الحاصل فيه، على صعيد فساد البنية في العلاقات الاجتماعية، لتكون القيم المتبادلة والمعمول بها، في مرمى هذا التغير سلبياً.
يكون الحرامية هؤلاء شديدي التنبه لأي جديد أو طارئ، من خلال تغيير الأدوات والأساليب في تعاملهم مع الذين يحيطون بهم، سواء أكانوا على الصعيد الجماعي أو الفئوي أو المجتمعي العام أو الثقافي، نظراً لما يتميزون به من نباهة تلتقط كل تغير والمناسب لهم في المجالات التي يبزون فيها سواهم.
ليس للحرامية وطن محدَّد بحدود معروفة، أو ثقافة تخرج عما يولفونها هم،الوطن ثمن مدفوع أو مقبوض سلفاً أو مقدراً، من خلال صفقات أو باتفاق معين بين المعنيين منهم وهم في درجاتهم، كما هو الحساب الجاري.
هناك حراميون معروفون من خلال المهتمين بهم، أو من يريد تسقط أخبارهم أو أنشطتهم، من خلال اجتماعات خاصة بهم، أو أدبيات معتقدية تسمّيهم، وفنون الشطارة في كل مقام ومقال.
الحرامية صنعة مزدهرة في المجتمعات كافة، لكنها في المجتمعات التي تعيش نخراً في الداخل، تكون أكثر إثماراً، أي أكثر قابلية لولادة أجيال وأنسال من الوجوه والأيدي والألسن التي تعمل ليل نهار إشعاراً بنفاذ سلطتها.
ثمة الدجل، والمراوغة والنفاق في تصيد الفرص أو الأوقات الأكثر جاذبية واستجابة لرغبات الحرامية ومراميهم.
هل من إمكان للحديث عن الحرامية المتأنقين الكرد؟ إنهم لا ينفصلون عن نظرائهم في المجتمع ممن يرطنون بلغات أو ألسنة أخرى، ربما جاز الحديث عن نوع من التعاون فيما بينهم أحياناً، أو عن وجود سمسرة مشتركة، إنه البزنس الوهّاب متعدد اللغات والأساليب إذاً.
لكن ذلك لا يعني عدم الإمكان عن الحرامية المتأنقين الكرد وعلى أعلى مستوى؟ وتعبير “أعلى مستوى” واضح بمقامه اللغوي والدلالي، حيث إنه يشير إلى هؤلاء الذين يسهل لقاءهم أو التواصل معهم في النطاق الوظيفي أو في الحياة اليومية العادية وفي الشارع وفي المناسبات المختلفة، مع مراعاة طبيعة اليقظة الخاصة لديهم في التمكن من أي كان غافل عمن يكون المتعامل معه من جملة هؤلاء الحرامية وأشباههم.
هؤلاء الحرامية هم الذين يبرزون من خلال فخامة الشعارات التي تخدع البسطاء، وتجد آذاناً صاغية لهم، لدوام سلطتهم.
إنهم في منتهى الديمقراطية صباحاً، مستجيبون لدواعي التغير، لكنهم أعداؤها مساء، ومن أشد الناكلين بها.
نزيهون إلى درجة لافتة، وفي الوقت ذاته ملوثة أيديهم في ارتكاب الحرام هنا وهناك.
مهادنون ووديعون في الداخل، ومراؤون وثوريون ومغامرو ساحات على حساب غيرهم خارجاً.
في الكتابة ينشدون الأفضل، ويسمون الأجمل، ويثيرون الأنسب، لكن ذلك لا يحول دون ارتباطهم بانتهاز الفرص.
يمكن القول، أن الذي يجري راهناً في الوسط الكردي، وحيث نقيم، ونرى شتاتاً كردياً- كردياً، هو فوات الكردية التي تعزز من سلوكية الكردي الفعلي، أي الطعن جهاراً في الكردية والنصب على قيمها باسم طروحات ثورية جوفاء.
على صعيد الممارسة الحزبية وفي الشارع وعبر الخطط الرنانة الطنانة، والمقالات الموقعة بأسماء يُحتفى بها، من قبل حرامية من نوع أقل، حيث لا تسمح مواقعهم بأكثر من ذلك، وفي التنظير الثقافي، وتحت يافطة الثقافة وفي خانة الأدب، يتحرك الحرامية المتأنقون زرافات ووحداناً، لكنهم يعرفون بعضهم بعضاً، وكافتهم يتحدثون باسم كردية غرّاء.
ما أصعب أن يبقى الكردي محتفظاً بكرديته الحقة، الكردية التي تعيش صفاء لها، وحوارها مع سواها.
إن شر الحرامية المتأنقين الكرد المستطير، هو الذي يشكل حقلاً واسعاً ومغرياً للبحث في مفاهيمه وكيفية تنميتها.
لست في حاجة لأن أسمّي حرامياً متأنقاً كردياً واحداً، فالحرامية هؤلاء أكثر من أن يتم حصرهم.
لكَم أحاول تجنب هؤلاء، وتفضيل العزلة على مجرد اللقاء العابر بهم، أو الكلام معهم بحذر شديد جداً، معترفاً ببراعتهم التاريخية في السطو على ظل أي كان دون تردد، أو استدراجه إلى دائرتهم الموبوءة ما بقي حياً.
نعم، صارت الحِكمة الكردية في أفواه هؤلاء الحرامية، كما يبدو! يبقى السؤال: هل يمكن لتاريخ مفصلي، وقريب، أن يعدَّ عدته لرمي كل هؤلاء في مزبلته!؟