عمل عسكري غير عادي في تاريخ أمريكا

كرم يوسف

بين أن تكون التصريحات الأمريكية عن الضربة العسكرية لنظام الأسد، بعد ارتكاب الأخير لمجزرة الغوطتين، باستخدام السلاح الكيماوي، مجرد حرب أعصاب استباقية قبل البدء بالضربة، كما هو معهود في تاريخ الحروب، لإضعاف النظام وإعادة الهيبة لأمريكا، وبين أن تكون هذه الضربة فقط جزئية، تمر الأيام والأنظار كلها متجهة الى ما سوف يحدث في سورية، أمريكياً وبريطانياً وفرنسياً، على اعتبار أن هذه الدول على رأس ملف الضربة التي ستقودها أمريكا، وفي هذه الأثناء لا أخبار عاجلة في القنوات الإعلامية، ويتوارد أكثر من تصريح يتعلق بهذه الخطوة’الأمريكية والدولية، التي طالما انتظرها الثوار في سورية من زاوية الخلاص الأخيرة.
في خضم هذه الأحداث المتسارعة أطل الرئيس الأمريكي باراك أوباما، في آخر لقاء إعلامي له، مصرحاً أنه يجب معاقبة نظام بشار الأسد في سورية على استخدام السلاح الكيماوي ضد شعبه، وموضحا أنه لم يتخذ قراراً بعد، وأن هناك خيارات عدة، من بينها الخيار العسكري، وأن الإدارة الأمريكية لا تريد الدخول في حرب طويلة، كما حدث في العراق.

من الممكن القول ان’أمريكا قد أخطأت في توقيت نيتها ببدء الضربة العسكرية والتحشيد لها، قبل أن ينتهي الوفد الأممي المكلف بالتحقيق في استخدام الأسلحة الكيماوية في سورية، وهي بهذا أدانت نفسها مجدداً، وأكدت انها تعرف الفاعل الحقيقي لمجزرة الغوطتين، ومستخدم الكيماوي فيهما، لا كما صرحت قبلاً بإدانة الجريمة، من دون تحديد فاعلها، كان الأفضل ألا تقوم أمريكا بإدانة الجريمة وتعبر عن قلقها بعد قصف الأسد بالكيماوي للغوطتين، من دون تحديد الفاعل في الساعات الأولى للجريمة، ثم تضيع بين التأكيد والنفي، ثم تشجع على إرسال الوفد الأممي للتحقيق، وتقرر الضربة والوفد لا يزال في دمشق، بعد أن جزمت أن الفاعل هو نظام الأسد، فإذا كانت امريكا قادرة على تحديد أن المدان في مجزرة الغوطتين هو الأسد، وذلك قبل أن يخلص الوفد المكلف إلى نتيجة، فلماذا لم تحدد أمريكا ذلك في عشرات الضربات الكيماوية على المناطق في سورية من قبل نظام الأسد قبل ضرب الغوطتين، أم أن خروج السلاح الكيماوي عن السيطرة هو العامل الأهم في أي استراتيجية؟

مما لا شك فيه إزاء ما يجري من تصريحات دولية، من بينها تصريح القيادة الروسية في أنها لن تشارك في القتال في حال شن ضربات على سورية، وكذلك تصريح قواتها المسلحة بأنه انتهى ذلك الزمن الذي ستحارب فيه روسيا من أجل أحد، وكذلك أسف روسيا على عدم انعقاد الاجتماع المقرر بينها وبين أمريكا، من أجل إيحاد حل سياسي عاجل للأزمة السورية، وحالات التأهب في دول الجوار السوري، كما في إسرائيل والعراق ولبنان، أن موضوع الضربة العسكرية دخل في إطار المؤكد، لكن آليات تنفيذه وأهدافه ولحظته لاتزال مجهولة إلى أن تنفض الأيام القيلية القادمة الغبار عنها.

ضمن هذه التصريحات المتعاقبة عن الضربة العسكرية على نظام الأسد لا يمكن فهم طبيعة هذه الضربة، إلا أنها سوف تكون جزئية وغير قاضية، وذلك من خلال تصريحات أمريكية أو بريطانية سابقة، وعلى رأسها تصريح الرئيس الأمريكي ‘بأن الضربة العسكرية ضد سورية قد لا تحل المشكلة، ولا تنهي مأساة قتل المدنيين في سورية، ولكن يجب على نظام الأسد أن يتفهم أن استخدام الأسلحة الكيماوية لا يخالف فقط المعايير الدولية، بل يشكل حالة تهدد المصالح الأمريكية’.

أوباما الذي أعلن في خطابه الاخير أن هذه الضربات لن تضع النهاية لحكم الأسد، ولن توقف قتل المدنيين يرسل رسالة صريحة بأن الهدف من هذه الضربة هو جملة أهداف استراتيجية، وعلى رأسها حرمان الأسد من الكيماوي الذي يستخدمه ليس ضد شعبه، بل عدم تركه بيده وقتاً أطول، لئلا يهدد به أو يستخدمه من خلال حماقة قد تحدث، وذلك منعاً للاستيلاء عليه من قبل جماعات إسلامية متشددة، وهو ما سيغير الكثير من الحسابات.

أيضاً يمكن أن نقرأ في لقاء أوباما المتلفز مؤخراً أنه أراد الحصول على تاييد شعبي وسياسي من خلال إيضاح أن الأبعاد الحقيقية للضربة العسكرية، هو تهديد مصالح أمريكية والخوف من وقوعها بيد القاعدة .

النظام السوري يقرأ هذه التصريحات الأمريكية ويتفاعل معها بعمق، ولو قصفت كل أهداف النظام فانه لن يرد بطلقة أو صاروخ لا على القواعد الأمريكية- إن أمكنه ذلك – ولا على اسرائيل، أو أي من الدول المحيطة، فهو يعي ان السكوت عن هذه الضربة أفضل من الدخول في غمار المواجهة مع أمريكا ووضع نهاية له، وهو نفس الأمر الذي فعله النظام مع اسرائيل التي شنت اكثر من هجمة على أماكن استراتيجية لنظام الأسد في سورية قبل وبعد الثورة.

بقاء تلك المواقع التي تحتوي على الأسلحة الكيماوية بيد نظام الأسد، من دون أن تقصفها اسرائيل من خلال هجمات سابقة يدفعنا إلى أن نستنتج أن أمريكا تحتفظ لوحدها بأماكن الأسلحة الكيماوية، أو أن تكلفة تدميرها والحد من أثرها بحاجة الى جهود دولية، وهذا ما ترغب إسرائيل به، في ألا تدفع التكلفة وحدها.

كل ما سبق يقودنا إلى أمر واحد وهو’أن أمريكا أصبحت تؤمن بأن النظام لن يستطيع الصمود في امام الثورة التي قامت في وجهه، وأن الأسد ونظامه لديهما حماقة التصرف في الأسلحة الكيماوية، وإن احتمالات وقوعها بيد الجماعات المتشددة قد زاد.

يفهم من هذا أن أمريكا ما كانت لتقدم على خطوتها المزعومة هذه لو أن السلاح الكيماوي بقي في يد النظام، ناهيك عن أن أمريكا تعلم أن النظام يملكه ويستخدمه قبل ظهور نتيجة الوفد الأممي المكلف بالتحقيق في استخدامه في دمشق.

وتصريح الخارجية الأمريكية على لسان جي كارني، قبل أيام، بأن النظام السوري استخدم الكيماوي كثيرا، يؤكد من دون شك أن كل تلك المذابح السابقة بحق الشعب السوري ما كانت لتُرِف جفناً لأمريكا وأن توقيت الضربة متعلق بتهديد المصالح الأمريكية ليس إلا.

الجديد في الضربة الأمريكية القريبة ضد نظام الأسد أنها ستكون على خلاف الضربات التي تمت في كوسوفو عام’1999، وفي العراق عام ’2003، وليبيا في 2011، في أنها سوف تكون جزئية وغير قاضية، كما أعلن عنها، سواء من قبل امريكا أو بريطانيا، ومن دون التنسيق مع المعارضة السياسية والمسلحة للبلد الذي سيقصف.

الضربة لن تكون قاضية ضد نظام الأسد فأمريكا لم تصل بعد إلى ما تريده من سورية مدمرة تعود إلى القرون الوسطى بأرض مدمرة وشعب نصفه ميت.

بالإضافة إلى كل هذا فإن هذه الضربة ستكون سابقة جديدة في تاريخ الضربات الأمريكية في أنها ستؤدي جزءاً من المهمة والنظام ‘السوري يعي هذا الأمر، وسيركز كل جهده وقت الضربة في الرد على تقدم المعارضين لا ‘الرد على أمريكا والمشاركين معها في هذا العمل.

  كاتب سوري
جريدة القدس

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…