سري كانيي/رأس العين غموض الجليِّ وجلوُّ الغموض

إبراهيم اليوسف

ظهرت إلى السطح في سري كانيي- دفعة واحدة-  جملة تناقضات الثورة السورية، سواء في ما يتعلق بواقع المعارضة، والجيش الحر، وما تشعبت عنه، وتحت اسمه، من مجموعات مسلحة،  أو الحركة الكردية في سوريا، ومن بينها حزب الاتحاد الديمقراطي، بالإضافة إلى الحراك الشبابي الثوري، كي نكون أمام لوحة متكاملة، عن حال المعارضة السورية، بكل مكوناتها، وتفاصيلها، وملامحها، ناهيك عما هو معروف في الجانب الآخر من المشهد السوري العام، متجلياً في أزمة النظام الاستبدادي الذي يسير إلى هاويته، بخطا سريعة، ويعدُّ  مصدر أية أزمة سورية، في الأصل، ولا يكل عن توجيه أدواته، أنى استطاع إلى ذلك سبيلاً، كي يظهر بذلك الخط البياني لأداء كل هؤلاء واضحاً أمام أعين السوريين والمتابعين للشأن السوري أينما كانوا.وليدفع –في التالي- أبناء المدينة ضريبة كبرى على أيدي غزاة المدينة المسلحين.
و سري كانيي التي تقع في منطقة الجزيرة السورية،كمدينة وادعة، وكإحدى البوابات الحدودية مع تركيا، اختارتها المخططات الإقليمية الأكثر هيمنة، لتكون ساحة صراع، مجانية، بعيداً عن أهداف الثورة السورية العظمى، بعد أن التقت في تصعيد أوَّار الصراع، مصالح أصحاب هاتيك المخططات مع مصالح حفنة من المرتزقة، والمغرَّر بهم – من السوريين تصنيفاً لا انتماء وطنياً- كي يتبنوا رؤية غريبة، تغدو دافع ومرجعية بعضهم، على أساس شخصي، و قبلي، أو قومجي، أو إسلاموي، في أحرج فترة تمر بها سوريا، مستغلين اسم الثورة السورية، ليتحركوا تحت يافطات عدة، وهي : تحرير منطقة الجزيرة التي تقع فيها أهم آبار النفط، وتعد خزاناً للأقماح، والأقطان، واليد العاملة، على اعتبار أن الهيمنة عليها، تقطع أحد شرايين النظام، ناهيك عن أن الدافع الرئيس للقوى التي دفعت هؤلاء هو تزايد نشاط الاتحاد الديمقراطي، لاسيَّما في ظلِّ الثورة السورية، وتحوله إلى قوة فعلية، بعد أن تلقت حاضنته الأم في سوريا، ضربات كثيرة، من قبل ، بيد أنه راح يعمل بوتائر عالية منذ بداية الثورة، وإن كان سيحاول بعض مكوناته الاستفراد في الساحة، والسعي لإلغاء الحراك الثوري الذي انخرط في الثورة -عملياً- منذ بدايتها، ليتعرض للقمع من قبله في أكثر من موقع، ما جعله يفتقد الثقة به في هذا الوسط، تدريجياً، وهو نفسه ما تكرر مع بعض الأطراف الأخرى الفاعلة في الحركة الكردية، متمثلة بالمجلس الوطني الكردي الذي كان جد حذر مما يجري سورياً، في بداية الثورة، لداع واقعي، وهو قطع الطريق أمام محاولات النظام العزف على وتر الفتنة في منطقة الجزيرة، من خلال قيام أجهزة الأمن السوري بتفجير الأوضاع بين مكوناتها العديدة، حيث أن هذه المنطقة من أكثر مناطق سوريا حساسية، وقد سبق أن قام النظام منذ 12 آذار2004، بمحاولة إشعال الفتنة بين الكرد وبقية مكونات المنطقة، ليستميل بعد ذلك شخصيات مهزوزة اجتماعياً، للقيام بإشعال الفتنة، لتحقيق هذه المهمة عنه، وذلك بعد إعطائها مكاسب موقوتة، وظهر ذلك في أكثر من محطة، لاسيما في بعد استشهاد د.

معشوق الخزنوي، وكان الحكماء -عرباً وكرداً وآثوريين ومسلمين ومسيحيين وإيزيديين- في المنطقة يضعون الحد لما يخطط له هؤلاء، ولعل الشيء نفسه تكرر مع بعض القوى المحلية في المنطقة التي باتت تتخوف من تصاعد قوة الاتحاد الديمقراطي، لاسيما وأن النظام كان يعمد إلى غضِّ النظر عن نشاطاتهم، وهو ما انعكس سلباً عليهم، ويؤلِّب الرأي العام عليهم، بل ازداد السخط على هذه القوة الفتية عندما قامت بالإعلان عن تأسيسها لوحدات الحماية الشعبية، وغيرها من المؤسسات كمجلس غرب كردستان، ليكون، بذلك، مقابل  المجلس الوطني الكردي، كما أن بعض التجاوزات التي تمت باسم pyd، أسهمت في خلق قناعة لدى الجهات التي تتوجس شراً منه، لتستثمر ذلك وبلؤم، كي تخطط للإجهاز عليه، مستفيدة من هذا الواقع الأليم للمشهد الكردي.

وكان، أن هذه الجهات التي فشلت في غزوتها الأُولى لهذه المدينة، واضطرت لعقد معاهدة صلح معها، بعد أن أدَّى ذلك إلى تهجير أبناء المدينة، وتسوية بيوت كثيرة فيها بالأرض، وقبل كل ذلك هدر دماء الكثيرين من الأبرياء، لتقوم بإعداد غزوة أُخرى، بعد أن خيل إلى المخططين، والمأجورين، والمغرَّر بهم، أنهم قادرون على تكرار الأمر، لاسيما بعد أن تم رفع وتيرة تخوين الجهات التي قادت التصدي لهم، على أنها تعمل بالوكالة عن النظام نفسه، بيد أنه في حقيقة الأمر، كان على هذه الجهة قطع مصادر الشكوك كلها، وإن كان النظام في الحقيقة، يرى في الشعب الكردي عدواً أول، أكثر من الجيش الحر نفسه، لأن أبناءه أول من حطموا تماثيل أبيه، في  مدينة عامودا، قبل تسع سنوات من الآن، وكان للاتحاد الديمقراطي دورواضح في مواجهىة آلة النظام….

ولعلَّ  الخطأ الكبير لدى الاتحاد الديمقراطي، هو أنه أضعف الحراك الثوري -الذي كان أول من وقف إلى جانبه في سري كانيي- من خلال محاولات استفراده في الساحة، بجملة ممارسات، لا مجال لذكرها الآن، وكان ذلك سبباً في تردد بعض التيارات الكردية في إبداء موقفها بالسرعة اللازمة، نظراً لالتباس قراءة الواقع عليها، إلى أن بدت الأمور بجلاء، وهو لم يمنع انخراط الشباب الكردي المستقل في الدفاع عن هذه المدينة، كما نرى، لاسيما بعد أن تمَّ  فضح ما يتم من قبل أصحاب المخطط الذين ضموا بعض القوى الظلامية، وبعض كتاب التقارير للأجهزة الأمنية الذين رموا بأنفسهم من مركبة النظام، بعد وشوكها على الغرق، كي يحتلوا مواقعهم في مركبة الثورة، منفذين خطط النظام نفسه في المنطقة.

وإذا كان من الغريب جداً، أن الاخوان المسلمين لم يصدروا حتى الآن، أي بيان رسمي ضد غزاة هذه المدينة، وهو ما يسجل على استقلالية قرارهم، فإن أداء المجلس الوطني والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية،  كان غير مرضي عنه، إذ أن أية خطوة عملية من قبلهما، كانت كافية لوضع الحدّ لجريمة الغزو، فإن الجيش الحرَّ ذاته والذي تحاول بعض هذه المجموعات-وهي تحمل أسماء بعض كتائبه- ارتكب غلطة جديدة، بعد غلطته السابقة في بعض الأحياء ذات التواجد الكردي في حلب، من خلال تصاممه، عما يتم من جريمة وطنية باسمه، وكان مجرد إعلانه أنه بريء من هؤلاء الذين يستغلون اسمه كافياً للمساهمة في وضع حد لغيهم، وتماديهم، بل إن ذلك هزَّ الحصانة التي كانوا يتمتعون بها في حاضنتهم الشعبية، إذ بات الحديث يتم وعلى نطاق واسع، عن خطورة هيمنة المجموعات المتشدِّدة العاملة باسمه، لأن التشكيك بالبديل القادم، ليسهم في تخفيف حماس أوساط واسعة ممن كانوا صناع الثورة السلمية، وإن كان اتفاق جميعهم أولاً وأخيراً، على إسقاط أبشع نظام دموي عرفه التاريخ، بل نظروا إليه بإجلال وهو يدافع عن حياة أهله، وكرامتهم، ومستقبلهم.

إن أي استعراض لإدعاءات منظري غزو سري كانيي/رأس العين، يجعلها لا تصمد أمام الواقع، لاسيما وأن هناك مدناً سورية أحوج إلى أن تتوجه إليها هذه القوات العسكرية، للمساهمة في فكِّ حصارها، وتحريرها، من ضربات النظام، وقد غدا بعضها مدناً منكوبة، وهناك حاجة كبيرة إلى عدم العبث بالعلاقة بين المكونات في المنطقة، لأن مجرد الاستعانة ببيادق سبق وانخرطت في مواجهة الكرد في السنوات الماضية، وكانت هي نفسها أدوات النظام في ضرب الكرد، كاف ليبين حقيقة هؤلاء الغزاة الهمجيين، بالإضافة إلى أنه من الضروري ترك هذه المدينة معبراً إغاثياً للمنطقة، وللمدن السورية المنكوبة، وقد كان الحديث منذ بداية الثورة عن ضرورة وجود ملاذات آمنة، يأخذ حيزاً واسعاً من مطالب هذه الثورة..! 

لقد أحدثت غزوة سري كانيي هزة كردية كبرى، من خلال التضامن الكردي الكبير ضد هذه المجموعات الغازية، ناسية التجاوزات التي كانت تتم باسم الاتحاد الديمقراطي، والهيئات المنبثقة عنه، وكان لذلك أثره في إزالة أيِّ صدع تمّ في المراحل الماضية، حتى وإن كان هناك ما هو بالغ الإيلام، بل إنه لفت إلى ضرورة مسائل مهمَّة، وفي مطلعها العودة إلى ضوابط السلم الأهلي في المناطق الكردية كلها، وضرورة التواشج مع المكونات الموجودة، وإزالة أي التباس يسيء إلى مفهوم العيش المشترك، في سوريا تعددية، ديمقراطية، مدنية، تشاركية، بعد أن استطاعت القوى التي لا تريد الخير لسوريا، زرع المخاوف الكثيرة، في الشارع السوري، في ظل بعض الحوادث والتصرفات التي كانت تتم هنا وهناك.

أجل، إن السلم الأهلي ضرورة لابد منها، ويجب أن يكون على سلم الأولويات، بالإضافة إلى ضرورة توسيع دائرة الجيش الكردي، ليكون باسم عموم الشعب الكردي، لا باسم مجرد جهة واحدة، ناهيك عن أن يتم تأسيس قوات مماثلة، من المكونات الأُخرى، لتحافظ على أمن المنطقة في مرحلة ما بعد سقوط النظام، ولمنع تحقيق ما أعلن عنه النظام، منذ بداية الثورة السورية.

وللحقيقة، فإن الاتحاد الديمقراطي، الآن، وبعد أن حقق إنجازات كبرى، يشهد لها الشعب الكردي والسوريون، في آن، على مفترق طرق، فقد تم إنجاز بطولات كبرى من قبل شبابه الشجعان، ومن انضووا تحت راية وحدات الحماية الشعبية التابعة له إلى الآن، وهي بهذا تابعة للهيئة الكردية العليا، ما يجعله ليكون فعلاً تلك القوة التي تم التأسيس لها منذ حوالي عام و نصف، و يستطيع إعادة رسم علاقته على نطاق واسع،كردياً، ومع المكونات الأخرى، تأهباً لمواجهة مفاجآت المرحلة المقبلة، الأكثر خطورة، لاسيما وأن هناك قوى إقليمية تتوجس وتتطير منه،  بل إن ملاحم سري كانيي التي جعلتنا جميعاً نرى فيه الضمير الكردي اليقظ، تضعه أمام مسؤولية كبرى، عليه أداءها، على أحسن حال.

و لقد جاء قرار ممثلي وحدات الحماية بعد انتصارهم الكبير على القوات الغازية، عندما أكدوا أن مهمتهم تكمن في حماية أهلهم، وإن قرار الهدنة، أو المصالحة، إنما هو في أيدي الهيئة الكردية العليا، وهو قرار صائب، ليبشر بأن ما جرى في “سري كانيي”  صار محطة مهمة في حياة الحركة الكردية في سوريا، وهو ما نأمل الحفاظ عليه، وتحقيق خطوات سريعة، وفق إيقاع اللحظة، ليكون هدفنا جميعاً إسقاط النظام الدموي، والإسهام في بناء سوريا المستقبل، سوريا كل السوريين، سوريا التي يحقق فيها الشعب الكردي حقوقه الكاملة، بالشكل الذي يرتئيه، إلى جانب أُخوته شركاء المكان …!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…