عندما يتحول الإعلام إلى أداة تحريض.. الكرد بين شيطنة الرواية وفشل المؤامرة

بنكين محمد

في النزاعات المعقّدة، لا تقلّ خطورة الرواية عن الرصاصة، ولا يكون التلاعب بالصور والكلمات أقل فتكًا من القصف. ما شهدناه خلال الأيام الأخيرة في التغطيات الصادرة عن بعض القنوات العربية الكبرى، وعلى رأسها #العربية و#الحدث و#الجزيرة، لا يمكن توصيفه بوصفه “اختلافًا في الزوايا”، بل انحرافًا سياسيًا وإعلاميًا عن معايير المهنية الدولية.
لقد جرى تسويق رواية مضلِّلة تتهم الكرد بالشماتة بسقوط ضحايا، مستندة إلى مواد بصرية مفبركة أو مجتزأة من سياقها، في محاولة مكشوفة لإعادة إنتاج صورة نمطية شيطانية عن مكوّن سوري أصيل، فقط لأنه أفشل مشروعًا عسكريًا لم يكن خافيًا على أحد.
الحقيقة التي يجري تجاهلها عمدًا هي أن الكرد لم يحتفلوا بالموت، ولم يرقصوا على جثث أحد، ولم يبرروا إراقة الدم. ما حدث هو تعبير جماعي عن الارتياح لفشل هجوم منظَّم استهدف أحياء مدنية كردية في حلب، هي الشيخ مقصود والأشرفية، عبر أذرع عسكرية ذات طابع طائفي، تعمل ضمن منظومة نفوذ إقليمي تقودها تركيا.
إن توصيف هذا الفرح بوصفه “شماتة” ليس خطأً تحليليًا، بل تزويرًا سياسيًا مقصودًا، يهدف إلى:
نزع الشرعية عن حق الكرد في الدفاع عن أنفسهم.
تغطية فشل مشروع إقليمي في إخضاع إرادة مجتمع محلي.
إعادة توجيه الغضب الشعبي بعيدًا عن الجهة المعتدية نحو الضحية.
لقد دافع الكرد عن أحيائهم كما يفعل أي شعب يُستهدف في وجوده، دفاعًا مشروعًا أقرّته كل الأعراف الإنسانية، وبسالة لا يمكن اختزالها في مقطع مصوّر أو عنوان تحريضي. وكان الفرح هنا فرح الصمود والبقاء، لا فرح القتل، وفرح إفشال المخطط، لا فرح سقوط الضحايا.
ومن المهم، للقارئ الدولي، فهم البعد الثقافي الذي جرى تشويهه عمدًا. فقد وثّق العديد من الرحالة والمؤرخين الغربيين في القرون الماضية أن الرقص عند الكرد هو فعل تحدٍّ جماعي، وتأكيد على التماسك والكرامة، وليس طقسًا احتفاليًا بالدم. استخدام هذا الرمز الثقافي خارج سياقه لتغذية خطاب الكراهية يُعدّ استغلالًا ثقافيًا فجًّا يخالف أبسط قواعد الصحافة الأخلاقية.
الأخطر من كل ذلك هو أن هذا النوع من التغطية لا يخدم السوريين، ولا الحقيقة، بل يخدم فقط اقتصاد الصراع القائم على الاستقطاب، وتأجيج الانقسامات، وتبرير العنف المستقبلي. الإعلام الذي يصنّف الدماء، ويمنح التعاطف لهوية ويمنعه عن أخرى، يفقد صفته كناقل للخبر، ويتحوّل إلى فاعل سياسي منحاز.
إن الدم السوري، أيًا كان مصدره، ليس رخيصًا، ولا يجوز تحويله إلى أداة في حرب الروايات. التضامن مع عوائل الضحايا يجب أن يكون شاملًا وغير انتقائي، والرحمة لا تُجزّأ، كما لا تُجزّأ الإنسانية.
ختامًا، إن استمرار هذا النهج الإعلامي لن يؤدي إلا إلى تعميق الشرخ السوري، وتقويض أي أفق للعدالة أو الاستقرار. والمسؤولية هنا لا تقع على الفاعلين العسكريين وحدهم، بل أيضًا على المؤسسات الإعلامية التي اختارت التحريض بدل الحقيقة، والاستقطاب بدل المهنية.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح عمر في لحظة يفترض أن تكون مكرّسة لرأب الصدع الوطني، وإعادة بناء ما دمرته سنوات الحرب والاستبداد، يطلّ خطاب الكراهية من جديد، أكثر حدّة ووقاحة، موجّهًا هذه المرّة ضد الكورد في سوريا، كأن التاريخ لم يعلّم أصحابه شيئًا، وكأن البلاد لم تدفع بعدُ ما يكفي من الدم والخراب. هذا الخطاب ليس عابرًا، ولا مجرد انفعالات على منصات التواصل أو…

د. محمود عباس ما نشرته واشنطن بوست البارحة، 23/12/2025م، تحت عنوان (كيف تسعى الأنشطة الإسرائيلية السرّية في سوريا إلى عرقلة حكومتها الجديدة) لم يكن كشفًا صحفيًا، بل إعادة تدويرٍ لتهمةٍ قديمة تُستحضر كلما اقتربت لحظة تسوية كبرى على حساب الشعوب. التهمة الجاهزة، الكورد والدروز أدوات إسرائيل. والحقيقة الأوضح، لا وجود لعلاقة سرّية ولا مشروع تحالف خفي، بل هناك تهمة سياسية…

زينه عبدي في خضم اللحظة الانتقالية التي تمر بها سوريا، لا يمكن قياس مدى التغيير المسؤول والملموس بالواجهات الجديدة في السلطة الانتقالية والخطابات التي تصدرها يوماً تلو الآخر، وإنما بقدرة الفواعل السياسية على إدارة الملف السياسي السوري بما يناسب السياق السوري الراهن، والسعي لإعادة ترتيب البيت السياسي من جديد وتفتيت ما تبقى من النموذج السابق الذي أودى البلد إلى الكارثة…

عبدالله كدو (إن لم ترض ببذل الكثير للحصول على القليل، فلا تبدأ). في إحدى زياراتي للكاتبة الكردية، الأميرة الراحلة روشن بدرخان، في منزلها بمدينة بانياس الساحلية عام 1988، وذلك لصالح مجلة ستير (Stêr ) أي النجمة، الأدبية الكردية ، سمعت من ضيفها، الكردي الدمشقي،العقيد المتقاعد محمد زلفو (ابو جوان)، الذي كان قد تقاعد قبيل تسلم عائلة الاسد الحكم في سوريا…