سليمان سليمان
ليس من السهل الاقتراب من السؤال المتعلق بتغيير الذهنية العروبية السائدة في سوريا تجاه الشعب الكوردي. فهذه الذهنية لم تتشكل كوجهة نظر سياسية عابرة يمكن تعديلها بقرار، بل هي نتاج عملية طويلة وممنهجة بدأت منذ وصول حزب البعث إلى السلطة، حين تحول الإنكار إلى سياسة رسمية، والتشويه إلى جزء من بنية التعليم، والإقصاء إلى عنصر من عناصر الهوية التي أراد النظام ترسيخها في المجتمع. وهكذا صار وجود الكوردي في الوعي العام مشروطًا بأكثر من خمسة عقود من التهميش، لا باعتباره مكوّنًا أصيلًا في البلاد، بل بوصفه مشكلة ينبغي نفيها أو التشكيك فيها.
على مدى أجيال، تلقى السوريون رواية واحدة عن الكورد: رواية مدروسة تُقدمهم على أنهم وافدون أو غرباء أو أصحاب مطالب تهدد الدولة. لم تكن القضية محصورة في كتب التعليم، بل في منظومة تربوية كاملة تُعيد إنتاج الفكرة ذاتها داخل الإعلام والمدرسة والخطاب السياسي. فالقومية العربية وضعت في موقع الهوية المطلقة، بينما أُقصي التاريخ الكوردي إلى الهامش أو محي بالكامل، في الوقت الذي تُتهم فيه المطالب القومية الكوردية بأنها انفصالية أو خيانة. بهذه الطريقة تشكلت ذهنية صلبة لا تمثل رأيًا فرديًا، بل حصيلة عقود من التنشئة الخاضعة لسلطة مغلقة.
ولهذا يصبح من السذاجة الاعتقاد بأن هذه الذهنية قد تتغير بين ليلة وضحاها. فكما استغرق النظام عقودًا في تثبيت الإنكار ضمن الوعي الجمعي، تحتاج عملية التفكيك إلى وقت أطول وإلى جهد معرفي عميق يتجاوز ردود الفعل والانفعالات. الصعوبة لا تأتي فقط من رسوخ هذا الإرث، بل من أن السلطة الشمولية حين تبني خطابًا ما، فإنها لا تنتج موقفًا سياسيًا فقط، بل تبني عقلًا بديلاً يَصعب تجاوزه دون إعادة بناء شاملة للمعرفة.
لقد أصبح الإنكار جزءًا من الهوية القومية التي حاول البعث فرضها باعتبارها هوية الدولة الطبيعية، ولم يعد المس بها مسألة سياسية، بل تهديدًا للذات الجمعية كما صاغها النظام. ومع الوقت، تحول هذا الإنكار إلى واجب وطني، فصار المجتمع نفسه يعيد إنتاج التعصب دون الحاجة إلى تدخل مباشر من السلطة. وحتى بعد إسقاط نظام البعث واستلام الفصائل الإسلامية المتطرفة السلطة في دمشق، لم يتغيّر الموقف من القضية الكوردية بل أعيد إنتاج الخطاب ذاته بواجهات جديدة، تارة باسم الدين الذي يعيد تصنيف الانتماءات وفق ثنائيات الإيمان والكفر، وتارة باسم القومية العربية الواحدة التي تحاول احتكار تعريف الهوية. وهكذا استمر العداء بصيغ مختلفة، لكنه ظل ينهل من الجذر نفسه.
ورغم كل التعقيدات، تبقى إمكانية التغيير قائمة إذا توفّر مشروع معرفي وثقافي يعيد صياغة القصة السورية من جديد، بحيث يدرج الكورد في الدستور باعتبارهم شعبًا أصيلًا يعيش على أرضه التاريخية، يتمتع بحقوقه القومية والسياسية المشروعة، لا كاستثناء ولا كملحق. ويتطلب ذلك تفكيك الرواية التي بناها البعث عبر إصلاح حقيقي في الإعلام والمناهج والتاريخ، لا عبر سجالات سياسية مؤقتة.
ولا معنى للحديث عن وحدة وطنية أو تعايش ما دامت الذهنية التي جعلت الكوردي غريبًا في وطنه لم تُفكك بعد، وما دام الدستور الذي أنكر وجوده ماثلًا في الذاكرة، والمناهج التي محَت لغته تُعيد تشكيل وعي أجيال كاملة، والسياسات التي جردت مئات الآلاف من السوريين الكورد من جنسيتهم لم يُعاد النظر فيها جذريًا. فهذه الذاكرة السياسية لا تُمحى بالشعارات، بل بتغيير البنى التي صنعتها.
إن تغيير الذهنية العروبية تجاه القضية الكوردية ليس بيانًا سياسيًا ولا خطابًا عابرًا؛ إنه معركة وعي تتطلب شجاعة معرفية واعترافًا تاريخيًا، وتحتاج زمنًا قد يكون أطول من السنوات التي استغرقها زرع الإنكار نفسه. فالإنكار لم يكن حادثًا طارئًا، بل مشروعًا كاملًا صُمم ليعيش طويلًا؛ ومن الطبيعي أن يكون تفكيك صناعة كاملة أصعب بكثير من إنتاجها.
ولذلك يكون الطريق الأقرب إلى تجاوز هذا الإرث وإعادة العلاقات بين المكوّنات السورية إلى طبيعتها هو بناء دولة مدنية فيدرالية، ذات نظام علماني يحفظ حقوق جميع المكوّنات دون استثناء، ويضمن العيش المشترك على أساس المساواة لا الإقصاء، والاحترام المتبادل لا الهيمنة. ففي مثل هذا الإطار وحده يمكن للسلام أن يصبح ممكنًا، وللأمان أن يكون واقعًا، وللمجتمع أن يتخلّص من إرث الإنكار ويبدأ كتابة قصة جديدة لسوريا أكثر عدلًا وإنصافًا.