الوعي القومي الكُردي المُغَيَّب

خوشناف سليمان

أثار تصريح د. سربست نبي في مقابلة مع قناة شمس مسألة حساسة تتعلق بطبيعة الهوية الكُردية، حين أشار إلى أن “الكُرد يمتلكون شعور مشترك بالهوية القومية، لكنهم لا يمتلكون وعي مشترك بها”. وهذا القول يفتح الباب أمام سؤال أعمق: هل يمكن تقييم الوعي القومي باعتباره خاصية ذاتية للجماعة، أم أنه ظاهرة لا يكتمل تشكّلها إلا ضمن مؤسسات قادرة على إكسابه شكله السياسي وصياغته في خطاب واضح؟
يميل عدد كبير من الباحثين إلى التمييز بين الشعور القومي والوعي القومي. فالأول هو انتماء وجداني يرتكز على الذاكرة الجمعية والروابط الثقافية، بينما الثاني يعني تحويل هذا الانتماء إلى مشروع سياسي منظم وخطاب متماسك قابل للاستمرار. وقد ترسخ هذا التمييز مع نشوء الدولة القومية الحديثة في أوروبا، حيث لعبت المؤسسات مثل المدارس ووسائل الإعلام الموحدة والسوق الداخلية دورا محوريا في بناء فضاء قومي مشترك. ومن خلال هذه البنى المؤسسية، يتحول الشعور الجمعي إلى وعي سياسي مستقر، وتشكل رؤية موحدة للهوية القومية قادرة على إنتاج لغة سياسية مشتركة وتوجيه العمل الجماعي.
في الحالة الكُردية، يظهر أن ضعف الوعي القومي المشترك لا يعكس نقصا في الاستعداد الذاتي بقدر ما يعكس آثار التجزئة السياسية والجغرافية. فقد أدى توزيع الكُرد بين أربع دول إلى نشوء بيئات قانونية وتعليمية وأمنية متباينة، ما حد من إمكانية تشكل فضاء قومي موحد يمكن الجماعة من تخيّل نفسها ككيان سياسي واحد. كما ساهم غياب مركز لغوي مرجعي، وتعدد اللهجات، وتباين أنماط الحكم ومستويات القمع، في إنتاج تصورات محلية للهوية يصعب دمجها ضمن إطار قومي جامع.
تُظهر التجارب الدولية أن الشعور القومي، مهما كان راسخا وجدانيا، لا يتحول إلى وعي سياسي مستدام من دون مؤسسات قادرة على تنظيمه وصياغته في خطاب ثابت. فالشعب الأرمني تمكن من الحفاظ على هويته القومية بفضل شبكة مؤسسات واسعة لعبت فيها الكنيسة دورا محوريا، بينما تجاوز الأيرلنديون الانقسامات الطائفية عبر نظام تعليمي موحد وأحزاب مركزية قوية. وحتى الفلسطينيون، رغم الشتات والانقسام، حافظوا على لغة سياسية مشتركة بفضل الإطار الجامع الذي وفرته الأحزاب الفلسطينية. هذه الحالات جميعها تشير إلى أن المؤسسة تمثل العامل الحاسم في تحويل الشعور القومي إلى وعي سياسي قادر على الاستمرار.
في السياق الكُردي، يظهر الوعي القومي بقوة في اللحظات المفصلية، كما حدث خلال الهجمات على كوباني وشنكال، أو أحداث قامشلو عام 2004، أو تفاعلات احتجاجية مثل حادثة جينا أميني في كردستان الشرقية. تكشف هذه اللحظات عن قدرة الشعور القومي على التحول إلى فعل جماعي واسع، لكنها في الوقت نفسه تبرز حدود هذا الوعي حين يغيب الإطار المؤسسي القادر على تحويل الاستجابة العاطفية إلى استراتيجية سياسية طويلة الأمد.
بالتالي، فإن القول بغياب الوعي القومي الكُردي يعد توصيفا قاصرا؛ فالمشكلة ليست في غياب الوعي، بل في تشتته بفعل التوزع الجغرافي والسياسي وافتقاره إلى مؤسسات قادرة على بلورته في مشروع قومي منظم. فالأرضية الوجدانية المشتركة حاضرة ومتجذرة، لكنها لا تجد دائما الإطار التنظيمي الذي يمنحها صياغتها السياسية الضرورية، فينتج وعي ظرفي يتقدم في الأزمات ثم ينحسر بانتهائها.
خلاصة القول: الوعي القومي الكُردي قائم لكنه معطل بفعل غياب مؤسسات عابرة للحدود قادرة على تحويله إلى خطاب سياسي متماسك. وتفعيله يتطلب بناء أطر تنظيمية تتجاوز الانقسامات، وتستوعب التعدد الداخلي، وتربط بين الشعور الوجداني والمشروع السياسي، ليصبح وعي سياسي مكتمل ومستدام.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
1 Comment
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
جمال ولو
جمال ولو
11 أيام

شكرا على المقال المفيد .والذي يمكنني الوقوف عند بناء مؤسسة او مرجعية تحت اسم غير مهم ليكون للكورد وكوردستان .حتى يكون هناك وعي مشترك بين كل الكورد بعموم كوردستان .وهذا المشروع متداول بين القوى السياسية الكوردستانية عموما أربعة عقود من الزمن.واجزم بأن المرحلة والظرف يتطلب بتأسيس ذلك وبالحاح .لأن أصبح لدينا الكادر الأكاديمي والتخصص بجميع المجالات متوفر .والعصر الذهبي للعولمة والتقنيات والتكنلوجية الحديثة .فتحت مجالات واسعة والظرف الدولي مناسب وحتى الإقليمي مناسب بعض الشيء. والاكثر ضرورة هو الظرف الذاتي أجزم بأن المرحلة تجزم ان يكون جاهزا لذلك .ولز كان مع بعض الصعوبات .

اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…