ياسر بادلي
في القاهرة، عاصمة الوعي الفرعوني والفكر الحر، كانت درية محمد علي عوني واحدة من تلك الأرواح التي تمشي بخفّة الحلم وثقل الحقيقة. لم تكن مجرّد كاتبة أو ناشطة نسوية، بل كانت بوصلة فكرية تشير نحو العدل والحرية، وتقرأ ما وراء أفق السياسة بلغة الإيمان بالشعوب.
كنتُ حينها طالبًا في الجامعة، أتنقّل بين الكتب والمقاهي والحوارات الفكرية، إلى أن قادتني الصدف الجميلة إلى بيتها في حي المهندسين. كانت تستقبلني بوجهها المضيء وابتسامتها الدافئة، وتقول لي دائمًا:
يا ياسر، عندما أراك أشعر أنني أرى الأكراد جميعًا، أرى شعبًا لا ينكسر.
ذات ظهيرة من عام 2006، جلستُ معها على مائدة الغداء في بيتها كانت تتحدث بعين المثقفة وبقلب الأنثى التي آمنت بالحرية كقدر. ثم قالت بصوت مملوء باليقين:
لدي معلومات من زعماء في العالم، أن الشرق الأوسط مقبل على ولادة جديدة… وستكون كوردستان الكبرى إحدى علاماتها.
ابتسمتُ يومها بدهشة الطالب الذي يسمع ما يشبه الأسطورة، لكنها تابعت بثقة وإيمان راسخ:
الشعب الكوردي يا ياسر، لا يعيش فقط على الأرض، بل يعيش في التاريخ، في الأغاني، في النضال. وإذا التقت هذه الروح بالإرادة الدولية، فسيولد كيان اسمه كوردستان الكبرى. ربما لن أشهدها أنا، لكن الأجيال القادمة ستراها، وسيكون وراءها قادة من طينة الرئيس مسعود بارزاني، والزعيم عبدالله أوجلان، والرئيس مام جلال .
كان في كلماتها مزيجٌ من النبوءة والحنين، من الوعي السياسي والبصيرة التاريخية. واليوم، ونحن نعيش في شرقٍ ما زال يبحث عن توازنه بين الخرائط والحقوق، تبدو كلمات درية عوني أكثر واقعية من أي وقت مضى.
لقد فهمت تلك المرأة ما لم تفهمه مؤسسات كاملة أن الشعوب التي لا تستسلم تصنع وجودها مهما طال الزمن. وأن الكورد، بما يحملونه من إرثٍ نضالي وجغرافيا متجذّرة في الذاكرة، ليسوا أقلية كما يحلو للبعض أن يصوّرهم، بل شعب ينتظر لحظة اكتمالها.
وفي تلك الفترة، كنت ألتقي بين حينٍ وآخر بالسيد حازم اليوسفي، ممثل إقليم كوردستان في القاهرة، وكان لقاؤنا أحيانًا يتم في بيت السيدة درية عوني نفسها. كانت الجلسات عندها عميقة ومليئة بالحوار الموضوعي، حيث تمتزج تحليلاتها السياسية بنظرتها الإنسانية الرحبة. كانت تمتلك عقلًا استراتيجيًا قادرًا على قراءة المشهد الإقليمي بعمق، وتوقّع ما وراء الأحداث بدقة نادرة، وكأنها تستشرف التاريخ قبل أن يُكتب.
رحلت درية عوني، لكن بقيت كلماتها تسكن الذاكرة، وتفيض حضورًا في كل نقاش عن الحرية والكرامة. وفي كل مرة تُرفع فيها راية كردية على قمة جبل، أو تُكتب قصيدة بلغات المقاومة، نشعر أن نبوءتها كانت أكثر من حلم… كانت قراءة مبكرة لمستقبلٍ يتشكّل ببطء، لكنه قادم بثبات.
فلروح السيدة درية عوني الرحمة والسلام،
ولأرض كوردستان الفجر الذي وعدت به الأجيال.