الواقع الكُردي في سوريا بين مأزق الطائفية واستحقاق الهوية

حوران حم
ما يحصل في سوريا حتى الآن لا يمنح الشعب الكوردي أي نصيب من استحقاقات قضيته الوطنية، رغم أنه يشكل ثاني أكبر قومية في البلاد، وشريكًا أصيلًا في الجغرافيا والتاريخ والوجدان السوري. فالحديث عن سوريا الجديدة، الذي يُطرح في المؤتمرات والحوارات الدولية، ما زال محصورًا في دائرة الطوائف والمذاهب والولاءات، دون أن يتجرأ أحد على طرح القضية الكردية بوصفها قضية شعبٍ أصيلٍ له حقوق قومية ودستورية لا يمكن تجاوزها.
منذ عام 2011، تحولت سوريا إلى ساحة صراعٍ إقليمي ودولي، لكن المسألة الكردية بقيت حبيسة الحسابات الضيقة. القوى الفاعلة في دمشق ما زالت تنظر إلى الوجود الكردي كملفٍ أمني، وليس كحقيقة قومية تستوجب الاعتراف والتضمين الدستوري. ورغم الحوارات التي جرت بين الكُرد وحكومة دمشق، فإن كل تلك اللقاءات لم تثمر عن أي تقدم ملموس، بل إن الوثيقة السياسية التي أعدّها الوفد الكردي الموحّد أصبحت حبيسة الأدراج، بعدما وُضعت على الرف بانتظار “الظرف المناسب”، وهو الظرف الذي لا يأتي في دولةٍ تقوم بنيتها على المماطلة والتسويف.
السلطة في دمشق ما زالت تتعامل مع المكونات السورية بعقلية “التحاصص”، وليس بعقلية المواطنة المتساوية. فالطوائف الدينية والمذهبية تُمنح حصصًا في الإدارة والجيش والأمن والبرلمان، بينما يُنظر إلى الكرد كأقلية عابرة، رغم أنهم شعبٌ كامل له لغته وثقافته وامتداده الجغرافي والتاريخي. لم يُمنح الكرد حق الاعتراف الدستوري بهويتهم القومية، ولم تُدرج اللغة الكردية كلغة رسمية ثانية، رغم أن أبسط أشكال العدالة الوطنية تقتضي ذلك.
إن الإشكالية في سوريا اليوم ليست فقط في شكل النظام أو بنية الحكم، بل في طبيعة العقل السياسي الحاكم. فالنظام الذي بنى وجوده على المحاور الطائفية والمذهبية لا يمكنه أن يتقبل فكرة التعدد القومي. هو نظام يخشى من الاعتراف بالآخر لأنه يرى في ذلك تهديدًا لهيمنة المركز، ولهذا يستمر في إدارة البلاد بعقلية “الوصاية” على الجميع.
وهكذا، فإن أي خطوة سياسية أو تفاهمٍ جزئي لا يسبقه تعديل دستوري صريح يقر بوجود الشعب الكوردي وحقوقه القومية، لن تكون سوى مناورة سياسية على حساب هوية الوجود الكردي في سوريا.
لقد خاض الكرد خلال السنوات الماضية تجربة الإدارة الذاتية، في محاولة لترسيخ نموذجٍ ديمقراطي محلي يعبّر عن إرادتهم، ويُظهر للعالم أنهم ليسوا مجرد “أداة” في صراع الآخرين، بل شركاء فعليين في بناء سوريا تعددية. إلا أن هذا النموذج واجه رفضًا مزدوجًا: من النظام الذي يراه تهديدًا لمركزيته، ومن المعارضة التي لا تزال تنظر بعين الريبة إلى أي طرح يتجاوز حدود الدولة المركزية القديمة. وهكذا، بقي الكرد بين مطرقة النظام وسندان المعارضة، في معادلةٍ ظالمةٍ تُعيد إنتاج الإقصاء التاريخي.
أما على الصعيد الإقليمي، فإن القوى المحيطة بسوريا لم تتعامل مع القضية الكردية باعتبارها مسألة عدالة وحقوق، بل كـ”ورقة ضغط” في صراعات النفوذ. تركيا ترفض أي صيغة تعترف بالكرد داخل سوريا لأنها تخشى من انتقال العدوى إلى داخل حدودها، وإيران تستخدم الورقة الكردية وفق مصالحها الأمنية، بينما تكتفي روسيا باللعب على التناقضات دون موقف مبدئي واضح. وحتى الولايات المتحدة، رغم دعمها العسكري للإدارة الذاتية، فإنها لم تضغط سياسيًا بشكل كافٍ من أجل اعتراف دستوري بالكرد في بنية الدولة السورية المقبلة.
كل هذا جعل من القضية الكردية في سوريا رهينة للمصالح المتقاطعة، بدل أن تكون قضية وطنية جامعة. وفي المقابل، ما زال الشارع الكردي يعيش بين الأمل والخذلان. الأمل في أن تأتي مرحلة انتقالية حقيقية تُعيد صياغة الدولة السورية على أساس الاعتراف المتبادل، والخذلان من كل جولة تفاوضٍ تنتهي بلا نتيجة.
وقد بدأت أصواتٌ ترتفع في الشارع الكردي، تنادي بالاستقلال أو تقرير المصير، كردّ فعلٍ طبيعي على تجاهل دمشق المتواصل لمطالبه المشروعة، ورفضها الإقرار بوجوده القومي كشعبٍ له حقوق أصيلة. فكلما طال الإنكار، تعاظمت رغبة الكرد في البحث عن بديلٍ سياسيٍ يضمن كرامتهم ووجودهم، بعد أن باتت الثقة بهذه السلطة شبه معدومة.
إن استمرار تجاهل الاستحقاق الكردي في الدستور السوري سيبقي الأزمة الوطنية مفتوحة. فلا يمكن لأي دستور أن يكون وطنيًا حقًا إذا لم يُدرج في نصوصه تعريفًا واضحًا لسوريا بأنها دولة متعددة القوميات، وأن الكرد جزء أصيل من شعبها. أي حديثٍ عن اللامركزية أو الانتخابات أو إعادة الإعمار دون معالجة الجذر القومي، ليس سوى إعادة تدويرٍ للأزمة بأشكالٍ جديدة.
في النهاية، الكرد لا يطالبون بالانفصال، ولا يسعون إلى اقتطاع جغرافيا من جسد الوطن، بل يطالبون باعترافٍ قانوني ودستوري بوجودهم، وبضمانات تساويهم مع غيرهم في الحقوق والواجبات. هذه المطالب ليست ترفًا سياسيًا، بل شرطًا لبقاء سوريا موحدة ومستقرة. فالدولة التي لا تعترف بتعددها القومي، تزرع بذور انقسامها بيدها.
لقد آن الأوان أن تتحرر دمشق من عقدة السلطة الأبدية، وأن تعترف بأن الكرد ليسوا ضيوفًا في وطنهم، بل صناع حضارة، وشركاء في الدم والأرض والتاريخ. فبدون هذا الاعتراف، ستبقى كل الاتفاقيات والحوارات بلا روح، وكل الوثائق السياسية مجرد أوراقٍ مؤجلة على رفّ النسيان.
رؤية الكُرد للحل
يرى الكرد أن الحلّ الحقيقي في سوريا لا يمكن أن يأتي من إعادة إنتاج المركزية أو الاحتفاظ بعقلية السلطة الواحدة، بل من صياغة عقدٍ اجتماعيٍ جديد يُبنى على أسس العدالة والتعدد القومي واللامركزية الديمقراطية.
إن سوريا المستقبل، في نظر القوى السياسية والمجتمعية الكردية، يجب أن تكون دولة ديمقراطية علمانية، تعترف بتعدد القوميات والثقافات واللغات، وتُوزّع السلطة بين المركز والأقاليم وفق مبدأ الشراكة لا التبعية.
فلا معنى لوطنٍ يُقصي مكوّنًا أصيلًا، ولا جدوى من دستورٍ لا يضمن المساواة الفعلية بين العرب والكرد والسريان والآشوريين وبقية المكونات.
من هنا، فإن اللامركزية الديمقراطية ليست مشروع تقسيم، بل مشروع وحدة حقيقية قائمة على الإرادة الحرة. الكرد لا يسعون إلى بناء جدارٍ يفصلهم عن سوريا، بل إلى بناء جسرٍ من العدالة يربطهم بها على أسس جديدة. فالوطن لا يُبنى بالشعارات، بل بالاعتراف المتبادل، وبالاحترام المتكافئ للهويات المتعددة التي تُشكل فسيفساءه التاريخية.
إن الاعتراف بالكرد كشعبٍ شريك في الدولة السورية لن يضعف الوطن، بل سيُقويه، لأنه سيفتح الباب أمام مصالحةٍ وطنيةٍ شاملة تُنهي قرنًا من التهميش والإقصاء. فالتاريخ أثبت أن من ينكر وجود الكرد، إنما ينكر جزءًا من هوية سوريا نفسها.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…