مزكين حسكو… صوت الحبر الذي لا يموت

نجاح هيفو

في فجرٍ ألمانيّ حزين من يوم الأربعاء، الأول من تشرين الأول/أكتوبر عام 2025، رحلت الشاعرة والكاتبة الكردية مزكين حسكو عن عمرٍ ناهز الثانية والخمسين عامًا، بعد صراعٍ طويلٍ مع المرض، تاركةً وراءها فراغًا كبيرًا في المشهد الثقافي الكردي، ووجعًا لا يهدأ في قلوب قرّائها وأصدقائها وكل من عرفها عن قرب.
ورغم أنّ الجسد قد أُنهك وواراه الغياب، إلا أنّ الكلمة التي خلّدتها ستبقى نابضة بالحياة، تشبهها في صلابتها وصدقها وصفائها.

وُلدت مزكين حسكو عام 1973 في قرية الشلهومية (تربة سبيه) في غربي كوردستان، في بيئةٍ بسيطةٍ لكنها غنية بالعاطفة والذاكرة. ومنذ طفولتها الأولى، حملت في عينيها حنين الأرض ورائحة الحقول، تلك البذور الأولى التي أنبتت شاعرة ستغدو فيما بعد إحدى أبرز الأصوات النسائية في الأدب الكردي المعاصر.
هاجرت إلى ألمانيا عام 1993، وهناك بدأت فصلاً جديدًا من حياتها، بين الغربة والكتابة والحنين. لكن المسافة لم تفصلها عن وطنها، بل جعلت من قريتها الأولى رمزًا في قصائدها، ومن الاغتراب نافذةً للبوح والتأمل والتمسك بالهوية.

كتبت مزكين بالكردية فقط، بإصرارٍ نادرٍ على أن تبقى لغتها الأم وطنها الأخير.
تنوّعت أعمالها بين الشعر والرواية، فبلغت أكثر من خمسة عشر عملاً أدبيًا. ومن أبرز دواوينها:
“أحرف الحب” (2007) – حيث مزجت بين الشغف والحنين.
“بين أنفاس الآلام” (2010) – الذي جسّد تجربة الإنسان الكردي في وجه الألم والمقاومة.
“نحو مواسم العشق” (2015) – دعوة إلى النور وسط عتمة الحروب والمنفى.
“الدروب المخضرة” (2019) – قصائد نضجت بالحكمة والسكينة بعد سنوات من التعب.
كانت تؤمن أن الشعر ليس ترفًا، بل خلاصًا، وأن الكلمة يمكن أن تشفي ما لا تقدر عليه المسافات.
وفي كل ما كتبت، كانت المرأة الكردية حاضرة – قوية، جريحة، ومشرقة في آن واحد – تمامًا كما كانت هي في حياتها.
انتمت مزكين حسكو إلى الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد، وشاركت في العديد من الندوات والملتقيات الأدبية. حصلت عام 2022 على جائزة تيريج الأدبية تقديرًا لعطائها وصدق تجربتها الإنسانية.
كانت تمتلك قدرة نادرة على الجمع بين البساطة والعمق، بين الحزن النبيل والأمل الهادئ، فاستطاعت أن تمنح للألم لغةً راقية، وللمنفى معنىً آخر غير الغياب.
لم تكتب لتنال المجد، بل لتقاوم الصمت، لتقول إن الكردية قادرة على احتضان الشعر كما تحتضن الأم طفلها.
وبين سطورها، كانت تعيد تعريف الجمال – لا بوصفه زينة الكلمات، بل كبذرةٍ في قلب المعاناة، وكنافذةٍ تفتحها الروح كي لا تختنق.

برحيل مزكين، خسرت المكتبة الكردية قلمًا نادرًا من حيث الصدق والعمق والوفاء للهوية.
لكنها، في المقابل، خلّفت إرثًا أدبيًا خالدًا، يفيض بالحياة والدهشة.
من يقرأ أعمالها، يدرك أنّها لم تكن تكتب لتُعجب، بل لتُبقي ذاكرة شعبها حيّة، ولتقول لكل امرأة كردية إن الوجع يمكن أن يتحوّل إلى قصيدة، وإن المقاومة يمكن أن تبدأ بحرف.
رحيلها ليس نهاية فصل، بل بداية خلودٍ من نوعٍ آخر. فكل صفحة من كتبها هي امتدادٌ لأنفاسها، وكل قارئٍ يحمل كلماتها في قلبه إنما يشاركها في استمرار الحياة بعد الموت.
ستبقى مزكين حسكو ملهمةً لنا جميعًا، مثالاً على المرأة التي لم تستسلم، وعلى الكاتبة التي جعلت من الألم جناحين، ومن الغربة بيتًا للحروف.
حين نقرأها، نشعر أن الشعر يمكن أن يكون وطناً، وأن الإنسانية لا تُقاس بعدد السنين، بل بعمق الأثر.

سلامٌ على روحك يا مزكين،
على تلك اليد التي كتبت بالضوء،
وعلى القلب الذي أحبّ الناس رغم الوجع.
ستبقين بيننا، كما تبقى الأغنية في ذاكرة الذين لا ينطفئون.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…