كوردستان وفلسطين: انتقائية المعايير الدولية

خوشناف سليمان

جاء اعتراف معظم دول العالم بدولة فلسطين قبيل انعقاد الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، ليعيد الزخم إلى قضية طالما شغلت الرأي العام الدولي واعتبرت اختبارا اخلاقيا للنظام الدولي في مدى التزامه بمبدأ تقرير المصير. غير ان هذا التطور يثير تساؤلا مشروعا لا يقل اهمية: لماذا لا تحظى القضية الكردية، رغم ان الشعب الكردي يزيد تعداده على خمسين مليون نسمة، باعتراف مماثل بحق تقرير المصير؟ هل يعكس ذلك انتقائية في تطبيق المبادئ، ام انه نتاج حسابات سياسية معقدة تؤجل الحسم الى اجل غير محدد؟
رغم مرور اكثر من قرن على تقسيم كوردستان، لا تزال القضية الكردية رهينة الجغرافيا السياسية والمصالح الدولية. فمن وعود الاستقلال بعد الحرب العالمية الاولى الى الدعم الرمزي خلال الحروب على الارهاب، لم تحظ القضية سوى بالشعارات، بينما تتكشف ازدواجية المعايير بوضوح عند التعامل مع الكرد. فكوردستان تستخدم احيانا كورقة ضغط وتهمَل حين تتعارض مصالح اللاعبين الكبار، لتصبح ضحية نظام دولي يطبق المبادئ بانتقائية سياسية اكثر من التزامه بالعدالة.
مبدأ تقرير المصير، الذي كرسته الامم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ظل مقيدا بمنطق الدولة القومية واحترام “سلامة الاراضي”، مما وضع الشعوب غير المعترف بها في مأزق. فالاعتراف الدولي لا يمنح فقط بناء على القانون، بل على اساس توازنات القوة والتحالفات الاقليمية والدولية. حصلت فلسطين على اعتراف واسع بدعم من الدول العربية والاسلامية، بينما بقيت القضية الكردية محاصرة برفض الدول الاربع (تركيا، ايران، العراق، سوريا) لأي خطوة نحو الاستقلال. تكشف هذه المعضلة ازدواجية المعايير والنفاق السياسي لهذه الدول، خاصة ان الغالبية الساحقة من الكرد مسلمون، لكنهم لم يحظوا بالدعم ذاته الذي مُنح لقضايا اخرى تحت شعار الدفاع عن المسلمين وحقوقهم.
تجربة كوردستان العراق بعد 2005 وتجربة “روجافا” في سوريا اثبتت قدرة الكرد على بناء مؤسسات سياسية مستقرة وحكم ذاتي ناجح نسبيا، لكنهما لم ينالا اعترافا دوليا بسبب غياب توافق اقليمي وراعي دولي. رغم امتلاك الكرد لمقومات امه مستقلة من لغة وثقافة وذاكرة وجغرافيا متصلة، الا ان مشروع استقلالهم يواجه عقبات جوهرية من وجهة نظر القانون الدولي:
– قيام دولة كردية يعني “اقتطاع” اراض من اربع دول ذات سيادة، مما يتعارض مع مبدأ وحدة الاراضي ويثير مخاوف القوى الكبرى من تفكك الشرق الاوسط.
– الدول الاربع تعتبر اي انفصال كردي تهديدا وجوديا وتستثمر نفوذها لمنع اي دعم غربي علني.
– الخلافات الداخلية بين القوى الكردية، بين مشروع “روجافا” واقليم كوردستان العراق، تضعف صورة المشروع الموحد وتقلل من جاذبيته كشريك سياسي.

الدول الغربية تتعامل بمنطق المصالح، حيث يشكل التحالف مع تركيا داخل الناتو اولوية تفوق دعم مشروع قد يزعزع الاستقرار الاقليمي. الاعتراف الدولي لا يعتمد على المبادئ فقط، بل على قدرة الكيان على خلق واقع مستقر، وتوفر توافق اقليمي او دعم خارجي قوي، كما حصل في جنوب السودان وكوسوفو. اما الكرد، فلا يوجد توافق اقليمي بل اجماع على الرفض، ولا راع دولي مستعد لتحمل كلفة الدعم السياسي والعسكري.
هكذا يعكس التباين بين فلسطين والكرد تداخل القانون الدولي مع المصالح السياسية، اذ حازت فلسطين اعترافا متدرجا بفضل دعم عربي واسلامي، بينما بقيت القضية الكردية مؤجلة. ومع ذلك، يظل الكرد عنصرا حاسما في استقرار المنطقة ومحاربة الارهاب، مما يجعل قضيتهم حاضرة في الحسابات الدولية رغم غياب الاعتراف الرسمي.
هذه الحالة تُمثل تجسيدا واضحا لازدواجية المعايير في النظام الدولي، حيث تُفعل مبادئ تقرير المصير أو تُلغى وفق السياق السياسي والتحالفات الدولية، وليس على أساس العدالة أو التاريخ. فالاعتراف الدولي مرهون بميزان القوى والتوافقات السياسية أكثر من كونه مسألة حق أو شرعية تاريخية.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…