إبراهيم محمود
1
العلة علامة فارقة في جسم كل منا. العلة تعني، كما هو معروف: خللاً أو مرضاً. أعني بذلك فقدان توازن في منظومة الكائن الحي. الإنسان محكوم بهذه العلاقة. لا مفر له منها. أليس الحديث عن تاريخ المرض يعني النظر في الإنسان مذ وجدت الحياة، وكيف يكون المسكون بالعلة. وهي درجات وأنواع من جهة الشدة أو الضعف. وعلى قدّر العلة: المرض يكون الألم، أعني المعاناة تأكيداً.
لا أخفي أنني بت أشبه بخبير” خبير شقي “، دون رغبة، في بنية العلة. هو هذا الداء، هذه المرة، والذي نبّهني إلى وجوده منذ عقود. لم أنتبه إليه كثيراً. هناك ما يُحتمَل في العلة. الداء، المرض ” كثرة المرادفات ، تشير إلى الحضور المكثف للعلة هذه، وانشغال الآخرين بها”، وهناك ما يدفع بأحدهم حين يعتل إلى الاستسلام، وليكون الختام القسري: اعتراف العضوية الضمني بأنها توشك على النهاية.
تحملت هذه العلة كثيراً، كما لو أن اتفاقاً كان بيننا، في الحضور والغياب، في ما يشبه الوخز، أو الضغط المنبه والمؤلم للجسم، أتنبه إلى هذا الحضور غير المرحب به، فهي داخلي، أحاول مجاراتها، سعياً إلى تجاوز محنتها .
في السنوات الأخيرة، لم تعد ترضى بهذا الحضور الدوري والعرضي، أو هذا الإيلام العابر، ومجرد التنبه لبعض الوقت. لقد زادات استحكاماً.
ماالذي يمكّنني من ضبط نفسي وهي مأخوذة بتكوينها العضوي رغم عنها؟ المجاراة لم تعد كافية. العلاقة تغيّرت بحكم الضرورة.
لم يعد لي من إمكان لتجاهلها، وقد حاولت كثيراً تناسيها، الإيحاء بأنني معافى، مؤّمم من نفاذ أثرها. أي ضعف بدأ يسمّيني ؟
من هم حولي باتوا يعلمون بحقيقة هذه العلة الخاصة: ضيط التنفس، حساسية، ربو.. إنه خلل في جهاز التنفس ظاهر بسطوته!
2
زاد ضغط هذه الحساسية علي، والربو، عضو ” متنفذ ” بتأثيره فيها، منذ أن حللت في إقليم كُردستان -العراق مضطراً كغيري، أي منذ آذار ” 2013 ” على أثر المستجدات العاصفة والانعطافية في سوريا، وحيث كنت أقيم ” في قامشلي “، ولأعمل بصفة باحث في مركز جامعي ” مركز بيشكجي للدراسات الإنسانية- جامعة دهوك، ولازلت قائماً على رأس عملي. ولكن ” رأسي ” لا يدعني كما كنت سابقاً، جرّاء تنامي وطأة هذه العلة. لا بد أن تواطؤ ظروف وحالات وراء هذا السفور والإيلام” أليس مفهوم الطب السيكوسوماتي: الجسمي- النفسي، بليغ الحضور في الحالة التي أعرَف بها هنا؟”.
ليس سراً، ولا تباهياً، إن أشرت إلى أوجاع أخرى ذات صلة بجسمي، وأنا أتقدم في العمر، وجسمي يتراجع صحياً إلى الوراء، أوجاع ذات علاقة بأدواء تتقاسم جوانب مختلفة من تكويني العضوي. لا بد أن تغيير الوضع وقسوة الحالة يعزز هذا الاعتلال المتنامي !
كثيرة هي الأدوية، الوصفات، ما له صلة بـ” الطب الشعبي “، أسماء أطباء مختصين، من له معرفة شعبية بما يفيد حالتي هنا وأبعد، عشت أجواءها، ولكنها في مجموعها العام لم تفلح في منح جسمي راحة نسبية، وأنا في وضعي المستجد.
يبدو أن الجهاز العصبي محكوم بقانونه الخاص، ولا يخضع لأي مطلب قيمي، أو توسل، مذ كانت الحياة !
3
ثمة علل: أمراض يمكن تحملها، التستر عليها. أي عدم الكشف عنها، وتجاهلها، حيث لا يمكن للآخرين معرفتها، طالما أنها لا تُسمَّى. طالما أن ليس من إشارة ظاهرة تشي بأمرها، وفي الداخل. سوى أن علتي: ضغط ضيق التنفس استثناء. الكائن الحي، والإنسان ضمناً محكوم كثيراً بما يتنفسه. وأدنى طارىء يكشف عنه. في القول والفعل. ولا يخفي تهديده مع تنامي الضغط بالتأكيد.
هوذا قلق مرفِق بهذا السفور، وهذا الإيلام، وإلزامي بتقليص نشاطي، أو أخذ الحذر مما أنا عليه.
4
منذ سنوات سبع لم أزر بلدي، لأسباب مختلفة. قامشلي أصبحت صنعة خيال، ما أبعدها عني. رغم قربها مني. ماالذي تفعله علة ” صفيقة ” حين تتمادى بقوتها المؤلمة؟ أين تكون حدود التنازل لها، سعياً إلى مصالحة، تهدئة، هدنة، لتكف عن التهديد؟
إنها لا تجيب، سوى أن تفعيل ” سلطتها ” شاهد لافت على أن ليس من حد لهذا الإيلام، والتخوف المتصاعد والمتفعل في النسيج العضوي الخاص بي.
هذه العلة كانت سبباً كبيراً لأن أتجه صحبة العائلة إلى بلدي، بغرض العلاج..
ألم الحساسية ” التنفسية ” لم يعد يُحتمَل !
كم نحن محكومون بطبيعة التغيرات التي نتعرض لها، وفي مثل هذه الحالات المرضية .
5
في زياراتي السابقة إلى البلد” وقامشلي تحديداً ” كنت أكتب مقالات عدة، حيث صحتي النسبية كانت تسمح لي بذلك. كتابات تتناول جوانب مختلفة من مشاهداتي هنا وهناك، إلى جانب الصور ذات الصلة .
علتي هذه التي نبهتني إلى نفاذ قوتها الموجعة، والمؤلمة لي وأهلي والمقربين مني، ومن باتوا عارفين بوضعي هذا، أقصتني عن كل ذلك. دفعت بي إلى زمان خاص، يعنيها. ولهذا، ما أكتبه هنا، إيجاز لمثل هذا ” الاسترقاق ” الذي لا مهرب منه .
6
كان توجهي والعائلة إلى قامشلي في يوم : الأحد ” 10-8/ 2025 “. استعملت البخاخ” الموسّع القصبي ” كثيراً، لأستطيع التحرك. أفلحت قليلاً في تفادي ألم ضيق التنفس لبعض الوقت..لكن العلة لم تغفل عني.. لقد عاودتني بوجعها ذلك المساء ..
وكما لو أنها لبست قبعة الإخفاء، فقد أبت أن تظهر على حقيقتها” أي حساسية تكون هذه؟ لحظة الكشف عنها، بإجراءات طبية مطلوبة.
التشخيص لم يفد، والتصوير الطبقي المحوري ” يوم الاثنين: 11-8/ 2025 “، وقبل توجهي إلى دمشق للعلاج اضطراراً، لم يمنحاني ما هو مفقود، لأتنفس دون تخوف شهيقاً وزفيراً .
7
وضعي المتفاقم صحياً أحال دون اتصالي بأحد. كان يوم الثلاثاء التالي مختلفاً.. مكّنني من بعض التحرك. سمح لي بأن أزور ضريح عزيزين علي، وهما كاتبان وشاعران كرديان: محمد سيد حسين، في قرية ” تل عربيد ” حيث تطوع صهره وابنته مشكورين لاصطحابي بسيارتهما إلى هناك، وفي ذلك اليوم الحار، والمسافة طويلة نسبياً..شعرت بالاختناق أمام شاهدة قبره .
الآخر: فرهاد عجمو، حيث ضريحه في مقبرة الهلالية، وهي مجاورة لقامشلو، وعلى تماس مباشر من حدود ” نصيبين ” وقد تطوع جلال ” عديلي ” هذه المرة، وسخر سيارته في خدمتي، بحيث مضينا إلى بيت الراحل نفسه، والتقينا بأخوة له” ومنهم الأخ بهمن. والتقطنا صوراً ذات صلة مباشرة بشاعرنا الراحل. ولا أدري كيف أمضيت دقائق معدودات في بيت الراحل، وشعور بالاختناق يحاصرني .
8
حملت معي رسالة مختصرة، من الصديق الدكتور فرات مقدسي، إلى طبيب له شهرته في دمشق، مختص بالأمراض الصدرية” الربو، خاصة ” وهو الدكتور جورج العسافين، وعيادته في محلة ” البحصة ” القريبة من المرجة، بدمشق.
طوال الطريق الممتد على مدى ” 13 ” ساعة، بالكاد كنت أتكلم، كنت حريصاً على المتبقي من نفسي. كنت مع آخر. والأقرب إلي هو أخ العائلة ” زياد ” حيث كان يقدّر حالتي. نزولي لمرة واحدة من ” البولمان ” أوجعني كثيراً. لأن تنفسي ازداد ضيقاً. حاولت ألا أظهر ذلك.. كان ثمة احتقان وجهي..وبقيت رغم ذلك حريصاً على عدم إقلاق المحيطين بي .
9
علتي صارت شاغلي الأول. لقد كنت أفكر في القيام ببعض الأعمال، عبر اتصالات مع من كنت أعرفهم في دمشق. لكن عسر التنفس منعني من كل ذلك . أفلح زياد في إنجاز بعض الأعمال التي تعنيني.. غير أن وضعي أوقفه. فكان لا بد من مراجعة عيادة الدكتور ” جورج ” ..وقد قدّر وضعي المتدهور.. كنت منهكاً ، بالكاد كنت أتنفس ..فأحالني فوراً إلى ” العناية المشددة ” في مشفى ” ابن النفيس ” في حي ركن الدين، بدمشق.. وهو يخبرني: يستحيل علي منحك أي دواء قبل خضوعك للعناية المشددة..وضعك صعب جداً: نوبة ربو شديدة ..
10
مساءاً حللت في قسم العناية المشددة في المشفى المذكور ” لا أستطيع التحدث عن الجهد الذي بذله زياد معي. وهو بين المشفى وخارجه، تلبية لطلبات الذين اهتموا بي، ولم يدّخروا جهداً في ذلك.. أعلمتهم ببعض من اهتماماتي” الطب من منظور ثقافي.. ” أجهزوا ” على جسمي بعدتهم وعتادهم، بتحاليلهم، بإبرهم، بتعليماتهم، وذلك الجهاز المؤلم الذي قارب صدري من الداخل، في محاولة لتنظيف صدري ، وتخفيف ضغط الربو ..
ثلاث مرات قدّرت أنني منته.. وخاصة ليلة الثلاثاء ” 18-8/ 2025 ” لحظة شعوري بنفاذ الأوكسجين.. وهمود جسمي..لم أستطيع التحمل.. قدّرت أنني لو استمريت لبعض الوقت.. لكانت نهايتي.. ضربت خشب السرير الجانبي الذي أنا فيه، بكلتا يديّ والسيروم عالق فيهما..وخبطت برجلي أسفل السرير، حيث الساعة قاربت الثانية والنصف فجراً.. هرعوا علي.. لا أدري كيف استعدت بعضاً من وعيي فيما بعد.. وقد أخافهم وضعي هذا.. حيث اتصلوا بزياد.. وقد أعلموه بأن الوضع لا يطمئن.. قدرتُ ذلك حين أخرج أوراقي والنقود المودعة في جيب قميصي..وأنا في مواجهة الموت.. غائباً عن كل شيء آخر..
11
في ذلك النهار الصعب” الثلاثاء ” اتصل زياد بأهلي.. أخبرهم بخطورة وضعي…أرعبهم نبأ كهذا.. ابني مهيار الذي كان في زيارة مع عائلته إلى البلد، قادماً من ألمانيا.. تنشط كثيراً، حين وجه سيارة لأحد الأقرباء ” من نوع فان ” إلى حيث أكون، وهي تقل العائلة وأخي . كان الخوف متمكناً من الجميع.. العائلة في الواجهة .. لكن بعد ساعات.. حصل انفراج ..لقد ارتحتُ لبعض الوقت.. وحين سحبوا الجهاز من فمي.. وبدأت أسعل.. وأفاجأ بذلك القشع الممزوج بالدم.. كما لو أن صدري خف الضغط عليه ولو قليلاً ..
وقد فوجئت مساء بزيارة العائلة وأخي.. وجرت طمأنة الأهل ..
12
خرجت من المشفى في اليوم الرابع ” الخميس، 21-8 / 2025 “. كان هناك إعياء جراء ضغط المعالجة ..إنما راحة نفسية بالمقابل .
تركنا دمشق وراءنا ذلك النهار.. وكلّي شكر لأطباء ” ابن النفيس “.. والشكر يمتد إلى الأمام ..
وكان الطريق الذي قطعناه بـسيارتنا ” الخاصة ” سالكاً وآمناً.. ذلك منحني راحة نفسية، وتنفساً أفضل.. رغم أنني كنت أسعل في الطريق.. وفي كل سعلة هناك قشع، ودم.. أي ” وكْر ” سافر بأوزاره تموطن في صدري؟ وأنا بعيد عن التدخين، أو الاختلاط بالآخرين إلا نادراً؟
13
كما لو أنني نجوت من موت وشيك.. وما أراحني أكثر، هو لقاء الذين لم أرهم منذ سنوات: أهلاً وأقرباء وأصدقاء..
الخبر الذي سرّبه الأستاذ رضوان فيسبوكياً، لعله ” التقطه ” من أخي، عن أنني تعرضت لوعكة صحية، أُخضعتُ على أثرها للعناية المشددة، لفت الأنظار.. كان هناك تعليقات، ودعوات بالسلامة ..
لم يخف الصديق الكاتب والشاعر إبراهيم اليوسف اهتمامه النوعي بوضعي.. متابعة وكتابة ..شكراً لهذه” الرعاية “
14
يوم السبت ” 23-8/ 2025 ” صحبة عديلي ” جلال ” راجعت الدكتور سعد حسو في قامشلي، للنظر في وضعي الصحي.. حيث أعلمه الدكتور والصديق مصطفى عبدالكريم بأمري.. ولم يدخر جهداً وهو يدقق في ” ملف ابن النفيس الصحي “، وتواصله معي مستمر مشكوراً. وليعطي تعليمات ذات صلة بطبيعة مرضي، حيث التهاب القصبات حاد، كما هي شهادة الدكتور داوود سليمان قبله، قبل توجهي إلى دمشق ..
15
في يوم الأحد ” 24-8/ 2025 ” تحركنا عائلياً، ومعي مهيار وأفراد عائلته.. رجوعاً إلى دهوك .. وكنت مطمئناً إلى نفَسي نسبياً.. لكن مع حلول المساء، شعرت بأن نفسي ضاق مع الوقت..
صدمني ما حصل.. أعطيتُ بخاخات عديدة.. لم تمنحني راحة تنفس، بحيث يمكنني أقعد وأقف وأمشي دون تخوف ..
عاد القلق مما يجري إلى الواجهة مجدداً.
16
يوم السبت” 13-9/ 2025 ” وعن طريق أصدقاء ومعارف في أربيل “د. بسام، د. كوكب، بافي نوروز..” بعملية شبه إسعافية، وفي سيارة خاصة، توجهت إلى أربيل، حيث يقيم الدكتور ” جعفر سعيد ” وهو في المجمع الطبي الأميركي، ينتظرنا .. والدكتور جعفر من محافظة ” الحسكة ” وله صيت حسن في تعامله وطرق تشخيصه للمرض، حيث أكد عليه د. سعد نفسه .
كان كما قيل فيه وعنه، بشوشاً، في المقام الذي وصِف فيه.. وقد اهتم بعلتي كثيراً.. حيث أجريت تحاليل مختلفة ..
وليسجل لي أدوية جديدة مختلفة كلياً عن أدويتي السابقة .. وهو يستغرب من علتي التي أصبحت مزمنة..
أي ذنب لي في كل ذلك؟ أهل الاختصاص معنيون بذلك ..
أشكرهم على جهودهم كاملة.. لا أعتقد أن هناك من يريد إيذاء مريضه، بدلاً من منحه الراحة والعافية ..
17
أتنفس الآن، كما لو أنني لم أعش رعب العلة المذكورة.. لا أصدق أنني ذلك الشخص الذي عانى طويلاً مما جرى ..
لازلت أتناول أدويتي..
ثمة مراجعة ..
ترى، هل ستحصل انتكاسة؟
تُرى، هل سيمنحني المتبقي من العمر قابلية التنفس دون منغصات، والنظر إلى من حولي بصورة طبيعية، دون أن يلاحظوا أنني أعاني من ” لوثة ” حساسية، من صفير ” صدري، لا أحد يتمنى سماعه..؟؟!!