خالد حسو
الديانة الإيزيدية، تلك الغابة المشتعلة في ليل الكورد، ليست حاشيةً على سفر الهوية، ولا تعليقاً عارضاً في دفتر الدم. هي النصّ الأول، هي العنوان الذي تجرّأ على الوجود قبل أن تنقضّ الجيوش بخيولها وأسلحتها، قبل أن تُسَوَّر الأرض بأسوار الغزاة. من لالش خرج الضوء الأول، يرقص على أكتاف الجبال، ومن لالش ارتجفت المعابد كأنها قلب العالم. أيُّ يدٍ تستطيع أن تقول: هذه الشجرة ليست من غابة الكورد؟ أيُّ فمٍ يجرؤ أن يقول: هؤلاء غرباء؟ كأن الدم لا يعرف لغته! كأن اللغة لم تتكوّر في حنجرة أول إيزيدي يصلي وهو ينظر إلى الشمس! يا لألم المشهد حين يحاولون سلخ الروح عن الجسد، حين يقطعون السرة التي تصل الإيزيدية بالكوردية. أيُّ جنون هذا؟ يعقدون مؤتمرات، يكتبون بيانات، يلقون خطباً متثاقلة، يريدون للإيزيدية أن تكون جسماً معلّقاً في الفراغ، لا أرض له، لا ظلّ. كأنهم يجهلون أن جغرافيا الإيزيدية هي عين جغرافيا كوردستان، وأن قراها، جبالها، وديانها، لم تعرف سوى هذا الشعب. أليس الكورد كلهم كانوا إيزيديين قبل أن يُغمد الإسلام سيفه، قبل أن يمدّ المسيحية صليبها؟ أليست سنجار وشنگال ولالش وطور عابدين شواهد لا تنكرها الحجارة ولا ينكرها الغبار؟
تاريخ الإيزيدية كتاب الدم الطويل: فرمانات متعاقبة، إبادة بعد إبادة، هزائم بالجملة، نساء سبايا، أطفال مذبوحون. سلاطين يبعثون جنودهم ليقتلعوا القرى من جذورها، وملوك يرسمون بمداد السيوف خريطة الخراب. كل ذلك لم يكن إلا تكراراً لأسطورة واحدة: الإيزيدية شجرة تقطع فتعود لتنبت. وها هو القرن الواحد والعشرون يكرّر المشهد على يد داعش في سنجار، حيث بيعَت النساء في أسواق الرقيق، وذُبح الأطفال تحت السماء المفتوحة، وارتجفت الجبال وهي ترى شعباً يركض إلى هاويته، ثم ينهض من جديد. لكن، يا للمفارقة! ليست الجيوش وحدها هي التي تذبح. هناك سكاكين قريبة، بأيدٍ كوردية. هناك من يتاجر بالإيزيديين كأنهم ورقة في لعبة سياسية، هناك من يوزّع دمهم على طاولة المساومات، هناك من يقول: هؤلاء قومية أخرى، هؤلاء أقلية معزولة، هؤلاء يمكن فصلهم عن الكوردية كما يُفصل الظل عن الجسد! إنها خيانة أخرى، بل جريمة أخرى بلسان ناعم، بخطاب محسوب. الأسوأ أن بعض الإيزيديين أنفسهم يضعون الزيت على هذا الحريق، يسهمون في خطاب الانفصال، ينسون أن الجرح الذي يُترك مفتوحاً في جسد الأمة لا يندمل أبداً. أيها التاريخ، أية سخرية تكتبها حين يُقال للإيزيديين إنهم غرباء عن دمهم؟ أيها الجغرافيا، أية مهزلة تسمحين بها حين يُقال: هذه الأرض لا تخصّهم؟ الإيزيدية ليست ضيفاً، بل صاحبة الدار. لولاها لكان البيت الكوردي ناقصاً، مخلوع الباب، بلا ذاكرة. إن كل هوية تُبنى من دون الإيزيدية هوية مبتورة، وكل تاريخ يُروى من دونها تاريخ مزيف. المثقف الذي لا يبدأ بالإيزيدية مثقف يخون ذاكرته، والسياسي الذي يتلاعب بها سياسي يفرّط بمستقبل أمته.
ليست المسألة مسألة ماضٍ فقط. الإيزيدية اليوم درسٌ للأمة: درس أن البقاء ممكن رغم كل محاولات الفناء. في طقوسها، في قناديل لالش، في أغاني الأعياد، يتجلّى إصرارها على أن تقول: نحن هنا، نحن باقون. حتى حين تُركوا وحدهم في سنجار، لم يرفعوا الراية البيضاء. قالوا للعالم: إن لم تحمِنا الجيوش، تحمينا الجبال. إن لم تسعفنا الأمم، تسعفنا ذاكرتنا. أي درس أبلغ من هذا؟ أي رسالة أوضح للأمة الكوردية: أن الانعزال موت، وأن التخلي عن الجذور ضياع؟ الإيزيدية، في حقيقتها، ليست مجرد دين. إنها نسيج حياة: العلاقة مع النار، مع الشمس، مع الفجر، مع الليل. هي فلسفة الوجود حين كان الإنسان يبحث عن معنى في اتساع العالم. لذلك بقيت، رغم كل محاولات المحو. بقيت لأن جذورها ضاربة في الأرض مثل عروق شجرة زيتون. كل مرة تُقطع، تعود لتنبت. كل مرة يُعلن موتها، تعود لتتنفس. وهذه المعجزة ليست معجزة لاهوتية فقط، بل معجزة تاريخية: دين صغير ينجو من مئات المجازر، يظل حيّاً كأن دمه من صخر لا من لحم.
أي مشروع سياسي كوردي يتجاهل الإيزيدية مشروع أعرج. أي ثقافة كورديّة تُقصيها ثقافة ناقصة. لا يمكن أن تُبنى الأمة إلا بجميع جذورها، والإيزيدية هي الجذر الأول، هي البذرة التي نبت منها الشجر. لذلك نقولها بصوت لا يعرف الخوف: الدفاع عن الإيزيدية ليس شأناً دينياً، بل هو دفاع عن الكوردية نفسها. من يفرّط بالإيزيدية يفرّط بأمته، ومن يسلخها عن جسد الأمة يواصل جريمة الإبادة بوسائل جديدة، بأدوات حديثة، ولكن بالنية نفسها. كوردستان، في حقيقتها، ليست أرضاً فقط. هي ذاكرة مكتوبة بالدموع والدماء، هي طقوس ومعابد وأغانٍ، وفي قلبها الإيزيدية مثل شجرة بلوط لا تنحني. من يريد أن يفصلها عن الأمة كمن يريد أن يقتلع قلباً من صدر حي. من يحاول أن يجعلها أقلية عابرة كمن يريد أن يقنع الجبال بأنها غبار. هذا هو العبث الذي يُمارس باسم السياسة، وهذا هو الجنون الذي يجب أن يُواجَه بلا مساومة. يا أبناء كوردستان، تذكّروا: أنتم كنتم إيزيديين قبل أن يمدّ التاريخ أذرعه بالغزاة. دمكم يشهد، لغتكم تشهد، أسماؤكم القديمة تشهد. ومن يتنكر لهذا الأصل، يتنكر لروحه، ينكر ظله. أما الإيزيدية، فإنها ستظل، ما دامت الجبال واقفة، ما دامت القناديل مشتعلة في لالش، ما دامت الأغاني تتردّد في حناجر الأطفال. إنها ليست مجرد ديانة. إنها وعد. وعد بأن الأمة لا تنقرض ما دامت تتذكّر جذورها. وعد بأن الدم لا يخون نفسه. وعد بأن الروح الكوردية، مهما تقطّعت بها الطرق، ستعود إلى بيتها الأول: إلى الإيزيدية.