اكرم حسين
تُثار كثيراً مسألة حجم الوجود الكردي في شمال وشرق سوريا (المناطق الكردية )، وغالباً ما تُقدَّم أرقام تقل كثيرا عن مجموع الكرد في البلاد، مع محاولة اختصار وجودهم في بقعة جغرافية محدودة. هذه المقاربة، على عدم صحتها ، تغفل عن جانبين أساسيين: الأول أن الجغرافيا الكردية في سوريا جغرافيا تاريخية أوسع من الحدود الإدارية الراهنة، والثاني أن التراجع العددي للكرد في بعض المناطق ليس طبيعياً، بل نتيجة مباشرة لسياسات تغيير ديمغرافي مورست ضدهم عبر عقود.
من المعلوم أن الجغرافيا الكردية السورية هي امتداد طبيعي لمناطق الكرد في العراق وتركيا، و تمتد من أقصى الشرق في ديرك إلى أقصى الغرب في عفرين، مروراً بالقامشلي وكوباني والحسكة. هذه الرقعة أُلحقت بسوريا الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى ورسم الحدود وفق اتفاقيات سايكس-بيكو، وهو ما يعني أن الوجود الكردي في هذه المنطقة ليس طارئاً أو مهاجراً، بل أصيل ومتجذر.
لكن منذ ستينيات القرن الماضي، بدأت السلطات السورية في تنفيذ مشاريع استهدفت هذا الوجود بشكل مباشر. أبرزها “الحزام العربي” الذي أُقرّ في الستينات ، ونُفذ في السبعينيات، حيث جرى تهجير آلاف العائلات الكردية من أراضيها الخصبة على طول الحدود مع تركيا، وتوطين عائلات عربية مكانها. وإلى جانبه، جاء “الإحصاء الاستثنائي” في محافظة الحسكة عام 1962، الذي جُرّد بموجبه أكثر من 120 ألف كردي من الجنسية السورية، الأمر الذي حرمهم من الحقوق المدنية الأساسية وترك أثراً عميقاً على أجيال كاملة.
وفي السنوات الأخيرة، أضيفت فصول جديدة لهذه السياسات عبر التهجير القسري الذي شهدته عفرين وسري كانيه (رأس العين) وكري سبي (تل أبيض)، حيث فُرضت وقائع جديدة غيّرت الخريطة السكانية بشكل واسع. هذه الممارسات لا يمكن عزلها عن سياق سياسي هدفه الأساسي تقليص الحضور الكردي وتشويه الجغرافيا الكردية لصالح أجندات قومية أو إقليمية.
من هنا، فإن الحديث عن أن الكرد في شمال وشرق سوريا يشكلون “اقلية” لا يعكس الحقيقة التاريخية، بل هو نتاج لهذه السياسات. الوجود الكردي أوسع وأعمق من أن يُقاس بأرقام مشوّهة ، ومع ذلك، فإن تأكيد الكرد على جغرافيتهم وحقوقهم لا ينطلق من نزعة انعزالية، وإنما من إيمانهم بأن الاعتراف بالحق القومي شرط لبناء عقد اجتماعي جديد في سوريا.
واللافت أن الكرد لم يحصروا وجودهم في مناطقهم التاريخية، بل انفتحوا على المدن الكبرى، وعلى رأسها دمشق، التي تشير التقديرات إلى أن نسبة الكرد فيها قد تفوق نسبتهم في اماكن اخرى ، وهذا يوضح أن الحضور الكردي في سوريا ليس جغرافي فقط، بل اجتماعي وثقافي واقتصادي ممتد في طول البلاد وعمقها.
في ضوء ذلك، يمكن القول إن الطموح الكردي يقوم على ركيزتين: الأولى ضمان خصوصية حقوقية وسياسية في مناطقهم التاريخية، عبر شكل من أشكال الحكم الذاتي أو اللامركزية الموسعة ، والثانية المشاركة الفاعلة في صياغة مستقبل الدولة السورية بوصفهم مكوّناً رئيسياً. فالمسألة الكردية في سوريا ليست قضية محلية تخص منطقة بعينها، وإنما جزء من سؤال وطني أكبر يتعلق بكيفية بناء دولة جديدة بعد عقود من الاستبداد والإنكار.
إن أي قراءة منصفة لا يمكن أن تتجاهل أن التغيير الديمغرافي لعب دوراً مركزياً في تقليص الوجود الكردي، وأن تصحيح هذا الخلل لا يتم عبر إنكاره أو التقليل من شأنه ، بل بالاعتراف به كشريك أساسي في إعادة بناء سوريا. فالتجربة أثبتت أن تجاهل الحقوق القومية للكرد لم يحقق الااستقرار، بل فاقم الأزمات وعمّق الانقسامات.
وعليه، فإن الجغرافيا الكردية، بما تحمله من تاريخ ومعانٍ، ليست مطلباً انعزالياً، بل دعامة أساسية لبناء سوريا تعددية عادلة، تعترف بجميع مكوناتها وتستفيد من طاقاتها ، ومن هنا تأتي أهمية أن ينظر السوريون إلى الوجود الكردي لا كرقم أو نسبة، بل كجزء أصيل من مشروع وطني شامل، يفتح الطريق أمام قيام دولة حديثة قادرة على لعب دور إقليمي ودولي فاعل.