الإدارة الناجحة بين الأخلاق والعدالة

مسلم شيخ حسن – كوباني

تكشف التجارب التاريخية المقارنة أن شرعية أي إدارة سياسية لا تستمد فقط من امتلاكها لأدوات السلطة بل من قدرتها على تحويل تلك السلطة إلى ممارسة عقلانية قائمة على مبادئ العدل والمساواة واحترام حقوق المواطنة. فالشعب، بصفته مصدر السيادة والشرعية هو الركيزة الأساسية لبناء الدولة الحديثة. إن تجاهل هذه الحقيقة أو التعامل مع المواطنين من موقع الاستعلاء  لا يؤدي سوى إلى تقويض العقد الاجتماعي وانهيار الشرعية السياسية.

إن الإدارة التي لا تلتزم بالمعايير القانونية والمؤسسية ولاتحترم الإرادة الشعبية التي أوصلتها إلى مواقع صنع القرار تكون قد حكمت على نفسها بالفشل البنيوي .فالدولة وفق المنظور المؤسسي لا تقاس بقوة أدواتها الأمنية أو مدة سلطتها بل بمدى  قدرتها على  إرساء سيادة القانون كإطار يحكم العلاقة بين السلطة والمجتمع. وأي انحراف عن هذه القاعدة ينشئ حالة من الاغتراب السياسي حيث تصبح السلطة الى أداة قمعية فاقدة للشرعية اجتماعية.

إن التجارب السياسية في المنطقة العربية دليلاً واضحاً على هذه الحقيقة. فقد انهار نظام صدام حسين في العراق تماماً نتيجة إقصاء القوى الاجتماعية المتنوعة وتبني سياسات الإقصاء والتمييز. كما سقط النظام السوري بقيادة بشار الأسد بفعل اعتماده النهج نفسه في التعامل مع مختلف مكونات الشعب السوري. هذه النماذج تعكس قانوناً سياسياً ثابتاً وبالتالي أي نظام لا يتضمن آليات المشاركة والتعددية والاعتراف المتبادل محكوم عليها بالزوال مهما بدت متماسكة على المستوى الظاهري .

ويبرز الملف الكردي في سوريا نموذجاً تحليلياً لهذه المعضلة. فقد مثل انكار السلطة السورية السابقة للحقوق المشروعة للشعب الكردي إلى جانب ممارستها سياسات تمييزية ممنهجة ضده تعبيرا عن قصور بنيوي في مفهوم الدولة الوطنية . فبدلاً من بناء دولة تحتضن التنوع كعامل استقرار جرى التعامل مع التنوع كتهديد يجب القضاء عليه أو تهميشه. وبهذا المعنى ساهمت هذه السياسة في تفكيك النسيج الوطني وحرمت الدولة من مصدر استراتيجي للاستقرار السياسي والاجتماعي.

الدرس الأعمق المستفاد من هذه التجارب هو أن امتلاك السلطة لا يعني امتلاك الشرعية كما أن المساواة لا تعني امتلاك الحقيقة. فمن منظور نظرية الحكم الرشيد تعتمد السلطة على قدرتها على التحول من الهيمنة إلى المشاركة ومن احتكار صنع القرار إلى التوزيع العادل للموارد والحقوق. فالحاكم الذي يصل إلى منصبه عبر مسار التاريخ المصادف أو عبر سلطة الآخرين لا يكتسب قيمته إلا بقدر ما يستطيع أن يصغي على الإنصات إلى مجتمعه وتحويل سلطته إلى مشروع عدالة.

لذلك، يمكن القول إن استدامة أي نظام سياسي لا تتحقق بالقوة أو بتمديد الحكم الاستبدادي بل عبر بناء شرعية القائمة على العدالة التوزيعية واحترام التعددية القومية والطائفية وتعزيز آليات المشاركة السياسية.

 فالإدارة التي تفشل في فهم هذه المعادلة قد تترك أثراً، لكنها لن تستفيد من ذاكرة تاريخية إيجابية ومن ناحية أخرى فإن الإدارة التي تنجح في ترجمة سلطتها إلى عقد اجتماعي عادل هي وحدها التي تتجاوز حدود السلطة العابرة لتصبح قيمة مؤسسة في وجدان الشعوب

16 / 9 / 2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…