حوران حم
لم تكن الحركة الكردية في سوريا يوماً كتلة واحدة متماسكة، بل عاشت على وقع الانقسامات والانشطارات منذ نشأتها. لكن ما تشهده اليوم من خلافات بات يتجاوز حدود التباينات الطبيعية إلى حالة من التشظي العميق، تجعل من الصعب الحديث عن مشروع قومي موحد. هذا الانقسام لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج مرجعيات متباينة وارتباطات خارجية جعلت القرار الكردي السوري رهينة لعواصم أخرى.
جذور الأزمة: تبعية مرجعية وتضارب مشاريع
الحقيقة المرّة أن جزءاً كبيراً من أحزابنا الكردية لم يتحرر من عقدة “التبعية”، فبعضها مرتهن لقرار الحزب الديمقراطي الكردستاني – العراق، وبعضها الآخر للاتحاد الوطني الكردستاني، فيما يرتبط قسم ثالث بحزب العمال الكردستاني ويمثل امتداداً لمشروعه الإقليمي، في حين تحاول قوى أصغر أن تبني لنفسها هوية مستقلة تحت شعار “كردستان سوريا أولاً”. هذه المرجعيات المتباينة جعلت الساحة الكردية السورية أشبه بمرآة للصراعات الإقليمية، أكثر مما هي ساحة تعكس حاجات المجتمع الكردي المحلي.
التأثير على المجتمع: انقسام يبدد الثقة
المجتمع الكردي، الذي كان يتطلع إلى وحدة صف تضمن له الحضور القوي في المشهد السوري، وجد نفسه محاطاً بكيانات متناحرة. كل حزب يرفع شعاراته الخاصة، وكل جناح يبرر تبعيته لأجندة خارجية بأنها “خدمة للقضية”. لكن المواطن البسيط لم يعد يرى في ذلك سوى مزيد من التشرذم الذي يضعف الصوت الكردي ويفتح الباب أمام الأطراف الإقليمية والدولية لتوظيف الانقسام لصالحها. ومع كل انقسام جديد، تترسخ قناعة لدى الشارع بأن هذه الأحزاب بعيدة عن همومه اليومية، وأن القضية الكردية باتت ورقة مساومة أكثر منها مشروعاً للتحرر والكرامة.
الانعكاس على الملف السوري: حضور ضعيف ومبعثر
في المحافل السياسية، يظهر الكرد مشتتين، بلا مظلة واحدة أو خطاب موحد. هذا الضعف انعكس على قدرتهم في الدفاع عن حقوقهم القومية، أو حتى المشاركة الفاعلة في صياغة مستقبل سوريا. والأسوأ أن بعض القوى المسلحة الكردية جعلت من السلاح أداة لفرض الهيمنة الحزبية بدلاً من أن يكون وسيلة لحماية المجتمع. النتيجة أن القضية الكردية في سوريا بقيت رهينة التجاذبات بين واشنطن وأنقرة وطهران وأربيل وقنديل، بدل أن تكون قضية وطنية سورية ذات استقلالية واضحة.
أفق الحل: استقلالية القرار الكردي السوري
الحل لن يأتي من خلال مؤتمرات شكلية تجمع الأحزاب على طاولة واحدة لتتقاسم المواقع، بل من خلال إعادة تعريف المرجعية السياسية للحركة الكردية السورية على أسس جديدة:
- التحرر من التبعية: لا يمكن للحركة الكردية أن تنهض وهي موزعة الولاءات بين أربيل والسليمانية وقنديل. المطلوب هو أن يكون القرار الكردي سورياً بامتياز، ينطلق من مصلحة كردستان سوريا وليس من حسابات خارجية.
- بناء مرجعية جامعة: لا حزب واحد ولا جناح مسلح يمكن أن يحتكر تمثيل الكرد. المطلوب إطار جامع يضم القوى السياسية والمجتمع المدني والنخب الثقافية والاجتماعية، بحيث يُعاد إنتاج خطاب سياسي موحد يعبر عن جميع المكونات.
- فصل العسكري عن السياسي: على القوى المسلحة أن تتحول إلى قوة حماية مجتمعية، لا أن تبقى أداة لفرض أجندة حزبية. السياسي يقرر، والعسكري يحمي، وهذه قاعدة لا بد من تثبيتها.
- انفتاح على الداخل السوري: مستقبل الكرد في سوريا لا يُبنى بمعزل عن باقي المكونات. أي مشروع كردي ناجح يجب أن يكون جزءاً من مشروع سوري ديمقراطي شامل، يعترف بحقوق جميع القوميات ويضمن شراكة حقيقية في السلطة والثروة.
نحو مشروع كردي – سوري مستقل
المعضلة الأساسية للحركة الكردية تكمن في أنها لم تحسم هويتها: هل هي جزء من مشاريع إقليمية متناحرة، أم حركة وطنية سورية تستمد قوتها من شعبها؟ الإجابة عن هذا السؤال هي مفتاح الحل. فإذا اختارت الأحزاب الكردية أن تستمر في التبعية، فإن مصيرها سيكون المزيد من الانقسام والعزلة. أما إذا اختارت الانتماء إلى كردستان سوريا أولاً، والعمل لأجل استقلالية القرار، فإنها ستفتح الطريق أمام وحدة الصف وتعزيز الحضور في الملف السوري العام.
إن الحركة الكردية في سوريا أمام خيار تاريخي: إما أن تبقى رهينة التبعية الإقليمية وتستمر في دوامة الانقسام، أو أن تعلن قطيعة مع هذه التبعية وتبني مرجعية سياسية مستقلة، يكون أساسها المجتمع الكردي في سوريا وشراكته مع باقي السوريين. عندها فقط يمكن الحديث عن حل حقيقي لمعضلة الحركة الكردية وعن مستقبل يليق بتضحيات شعبنا.