لا فيدرالية بلا جغرافيا محددة

خالد حسو
إنّ تحديد الجغرافيا الوطنية للشعب الكوردي ليس مجرّد خطوة إدارية أو ترسيم حدودٍ على الخرائط، بل هو فعل تأسيسي يضع حجر الأساس لأي نظام فيدرالي ديمقراطي حقيقي. فالجغرافيا ليست ترابًا وحسب، بل هي إطار الهوية، وضمانة الحقوق، ومجال ممارسة السيادة الشعبية. ومن دون وضوحها تُختزل الفيدرالية إلى شعار أجوف، وتتحول الديمقراطية إلى قشرة هشة سرعان ما تتصدّع عند أول خلاف. إنّ الجغرافيا المحدَّدة والواضحة تُنظّم الصلاحيات وتُوزّع المسؤوليات بين المركز والأقاليم، وتمنع التنازع على السلطة والموارد. فهي التي تكفل عدالة الثروة الوطنية بين المكوّنات، وتتيح تخطيطًا اقتصاديًا واجتماعيًا متوازنًا، وتضمن أن التنمية لا تبقى حبيسة المدن الكبرى، بل تصل إلى الريف والهوامش. ومن غير هذا التحديد، تصبح التنمية رهينة نزاعات حدودية وإدارية، ويتحوّل التوزيع العادل إلى محاصصة مشوهة أو غنيمة لفئة دون أخرى.
كما أنّ رسم الجغرافيا الوطنية يُسهم في ترسيخ اللامركزية الحقيقية، ويمنح الأقاليم القدرة على صياغة سياساتها المحلية ضمن الإطار الوطني العام، ما يعزز الحكم الرشيد ويُعيد الثقة بين المواطن ومؤسساته. فالشعوب لا تنتمي إلى كيانات ضبابية، بل إلى أرضٍ تعرف حدودها، وإلى خرائط لا تُستباح في كل أزمة.
لقد أثبتت التجارب العالمية أنّ غياب وضوح الجغرافيا هو البوابة الكبرى للانقسام والصراع. النزاعات التي كان يمكن تجنّبها تُصبح حروبًا أهلية دامية، والموارد التي كان يمكن أن تكون مصدر ازدهار تتحوّل إلى لعنة. بينما وضوح الجغرافيا، على العكس، يوفّر أرضية للاستقرار والازدهار، ويحوّل التنوّع إلى ثراء لا إلى تهديد.
من هنا، فإنّ مسؤولية الحركة السياسية الكوردية، في القسم الغربي من كوردستان، أن تجعل من تحديد الجغرافيا الوطنية أولوية أولى، لا تُزاحمها شعارات عاطفية ولا تُلهي عنها معارك جانبية. فهي ليست مسألة تقنية، بل قضية وجود وضمانة مستقبل، إذ عليها يتوقّف نجاح أي مشروع فيدرالي ديمقراطي، وعلى صلابتها يُبنى الاستقرار السياسي والاجتماعي، ويُصان السلم الأهلي، وتُفتح أبواب التنمية.
إنّ من يُهمل الجغرافيا يُهمل كل شيء، ومن يضبطها يُمسك بمفتاح الدولة العادلة التي لا تُقصي ولا تُجزّئ، بل تُوحّد على قاعدة الحقوق والكرامة المشتركة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…