عبدالجابرحبيب
في السياسة، لا مكان للأحلام الطوباوية أو الانفعالات العاطفية. فالتحليل الرصين لا يُكتب بما يتمناه صاحبه، وإنّما بما يفرضه الواقع الملموس. هذه قاعدة بديهية يُفترض أن تكون مرجعاً لأيّ محلل أو كاتب سياسي. ومع ذلك، نقرأ بين الحين والآخر مقالات تُبشّر بسيناريوهات أقرب إلى الخيال، مثل الحديث عن “كردستان سورية” رغماً عن الجميع، في وقت تكشف فيه المعطيات المحلية والدولية استحالة تطبيق الفيدرالية.
من أوّل أبجديات التحليل السياسي تسمية الأشياء بمسمياتها. فما الجدوى اليوم من الإصرار على توصيف أحمد الشرع بـ”الجولاني” أو “ما يُسمّى بالرئيس السوري”، بينما نرى المجتمع الدولي، بما فيه قوى كبرى وإقليمية، يتعامل معه رسمياً ويفتح قنوات دبلوماسية باتجاهه؟ أليس الأجدر بالكاتب السياسي أن يعترف بالواقع كما هو، بدل الالتفاف حوله بمفردات تعكس موقفاً شخصياً أكثر من كونها قراءة موضوعية؟
الطرح الأكثر إثارة للجدل مؤخراً كان ما كتبه أحد المحللين من أنّ الفيدرالية ستأتي “رغماً عن الجولاني”. هذه المقولة تحمل تناقضاً جوهرياً، إذ إنّ القوى الكردية التي تتحاور معه اليوم تنتمي في أصلها إلى منظومة فكرية تنفر من الفيدرالية، بل وتُشيطن تجربة إقليم كردستان العراق باعتبارها “فيدرالية قومية كلاسيكية”. فكيف يمكن البناء على سيناريو “كردستان سورية”، بينما المحاورون الفعليون يرفضون القومية والفيدرالية معاً ويطرحون بديلاً أيديولوجياً قائماً على ما يسمّونه “الأمّة الديمقراطية”؟
هذا ليس افتراضاً، بل حقيقة تثبتها تصريحات حديثة وموثّقة. ففي 28 آب/أغسطس 2025، صرّح السيّد صالح مسلم، الرئيس المشترك السابق لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، بما معناه: «نحن لا نسعى إلى الفيدرالية أو حكم ذاتي. تجربتنا قائمة على أساس الأمّة الديمقراطية، ولسنا كإقليم كردستان» (Welateme.net). فالفيدرالية الكلاسيكية في إقليم كردستان “فيدرالية قومية”. والفيديو موجود وصريح… من رجل لا يمكن اعتبار تصريحه تصريحاً شخصياً، فهو يبني على رأي حزبه الموقّر.
هذه التصريحات لا تترك مجالاً للتأويل. فهي تكشف أنّ الحديث عن “فيدرالية كردية” في سوريا لا يجد قبولاً حتّى لدى أهمّ القوى الكردية الفاعلة، بل إنّ البديل المطروح من قبلهم يقوم على صيغة أيديولوجية “اللامركزية الديمقراطية” التي تنفي المشروع القومي وتقدّم نفسها كحلّ “ما فوق قومي”.
ولا أعتقد أنّ الأمر يتوقّف عند ذلك التصريح، فأغلبية الشعب الكردي يرفض ذلك حتّى وإن لم يتحقّق ما يصبو إليه. ولكن غير مقبول من كردي أن يقول: “لا أريد فدرالية”… لأنّ ذلك يُضعف من قوّة الفريق المفاوض غداً، ذلك المفاوض الذي يمثّل طموحات الكردي السوري. ولهذا كانت المواجهة لذلك التصريح. ومن ضمن من رفض، فقد أصدرت رابطة مثقفي الكرد في سويسرا بياناً في 29 آب/أغسطس 2025 انتقدت فيه تصريحات مسلم، وهي الرابطة البعيدة عن الوطن، فما بالك بمن يسكن الوطن. واعتبرت أنّها تتناقض مع مخرجات “كونفرانس كردستان سوريا” (نيسان 2025) الذي شدّد على أنّ الفيدرالية هي الضامن القانوني لحقوق الكرد في سوريا. وأكّدت الرابطة أنّ “الأمّة الديمقراطية” لا يمكن أن تكون بديلاً عن الحقوق القومية المشروعة (Yekiti Media). هذه المواقف تكشف عمق الخلاف حتّى داخل البيت الكردي نفسه، وتضعف أكثر فأكثر فرضية الفيدرالية.
أمّا على المستوى الدولي، فلا نعتب على الغريب، رغم أنّ الصورة أكثر وضوحاً. فجميع القوى الكبرى، من الولايات المتحدة إلى روسيا والأمم المتحدة، ما تزال تتمسّك بمبدأ وحدة سوريا. وهذا ما تكرّر في بياناتها الرسمية، تشدد على رفض أي خطوات تقسيمية أو انفصالية. بكلمات أخرى، لا وجود لغطاء دولي أو إقليمي يتيح قيام “كردستان سورية” أو أي فيدرالية مفروضة.
في ضوء هذه المعطيات، يصبح السؤال مشروعاً: على أي أساس يُبنى التفاؤل بقدوم فيدرالية كردية في سوريا؟ وهل يمكن لمقال سياسي أن يتجاهل كل هذه التصريحات الراهنة والمواقف الدولية، ثم يقدّم للقارئ وعوداً لا تمتّ للواقع بصلة؟ ولا أريد أن تكون هذه المواقف مبرّراً لمن يصرّح ويقول: “لأنّنا نعرف الواقع نطلب الممكن”. هذا ليس تبريراً، هذه سياستكم يا سيدي.
أمّا بالنسبة لصاحب المقالة المفعمة بالأحلام، فالسياسة لا تُدار بالشعارات ولا بالعواطف، بل بالاعتراف بالحقائق كما هي. والحقائق اليوم تقول بوضوح:
غياب الفيدرالية، لأنّ القوى الكردية الفاعلة نفسها تطرح “الأمّة الديمقراطية” بديلاً عن المشروع القومي. حقيقة مؤلمة مخفيّة عن عامّة الشعب الكردي.
وحدة سوريا لا تزال القاعدة الصلبة التي يتمسّك بها المجتمع الدولي. وما نسمع من تصريح ما؟ نفسّره على هوانا.
أمّا الأحاديث عن “كردستان قادمة”، فهي ليست سوى إسقاط لأمنيات شخصية على واقع لا يحتملها. وكما يحدث دائماً في السياسة، فإنّ الغد سيكشف المستور.