الفيدرالية: الطريق الوحيد لإنقاذ سوريا من رمادها

ماهين شيخاني

منذ أربعة عشر عاماً، وسوريا تُدار كرقعة محروقة؛ تتنازعها قوى محلية وطائفية وعرقية، ويتقاسمها اللاعبون الإقليميون والدوليون كغنيمة باردة.

سوريا اليوم ليست دولة، بل خرائط ممزقة، ولكل منطقة علمٌ وراية، ولكل ساحة لغة وسلاح. وفي وسط هذا الخراب، لا يزال بعض الساسة يرفعون شعار “الوحدة المركزية” وكأنّ الزمن لم يتحرك، وكأن الدماء لم تُسفك، وكأنّ ملايين اللاجئين لم يتركوا وراءهم بيوتاً تحولت إلى ركام.

السؤال الذي لا يحتمل تأجيلاً هو: كيف يمكن أن نعيد لسوريا معنى الدولة..؟.

– الفيدرالية كضرورة لا كترف

الفيدرالية ليست رفاهية فكرية ولا مؤامرة على وحدة البلاد، بل هي الاستجابة العقلانية الوحيدة لواقع سوري بات أوضح من أن يُنكر.

في دمشق سلطة تتحدث باسم “الوطن”، لكنها لا تملك سوى حماية أحيائها بظلّ الفصائل والاجانب.

في الشمال الغربي، تُرفع رايات دينية عابرة للحدود، لا تعترف أصلاً بمفهوم الدولة السورية.

في الشرق، إدارة ذاتية أثبتت خلال عقد قدرتها على خلق نموذج إداري وأمني وخدماتي مختلف، رغم كل الحصار والتحديات.

وفي الجنوب، أصوات درزية وعشائرية تبحث عن خصوصية سياسية تحفظ كرامتها.

هذه ليست “دويلات انفصالية”، بل حقائق قائمة على الأرض. والفيدرالية لا تأتي لتشرعنها، بل لتنظّمها وتضعها ضمن عقد وطني جامع، يحمي التعدد بدل أن يحوله إلى حرب مفتوحة.

– لماذا الفيدرالية هي الحل الأمثل..؟.

  1. الاعتراف بالتنوع: سوريا لم تكن يوماً بلداً أحادي اللون. الكورد، العرب، السريان، التركمان، الدروز، العلويون، السنة، المسيحيون… كلهم خيوط في نسيج واحد. الفيدرالية تعترف بالجميع دون استثناء.
  2. شراكة حقيقية: لا غالب ولا مغلوب. كل مكوّن يُدير شؤونه المحلية، لكن تحت سقف دولة اتحادية قوية.
  3. عدالة في توزيع الموارد: نفط الجزيرة، قمح حوران، مرافئ الساحل، وتجارات الشمال… ثروات الوطن يجب أن تعود إلى كل أبنائه، لا أن تُنهب في مركز واحد.
  4. إيقاف نزيف الحرب: الفيدرالية تُحوّل خطوط التماس إلى حدود إدارية، وتحوّل البنادق إلى صناديق اقتراع محلية.
  5. إعادة الشرعية الشعبية: بالانتخابات الحرة، تُبنى مؤسسات اتحادية تعبّر عن إرادة السوريين جميعاً، لا عن حزب أو طائفة.

– الرد على المخاوف

من يخشى أن تكون الفيدرالية مقدمة للتقسيم، يتجاهل أنّ سوريا اليوم مقسمة فعلياً، وبحماية أجنبية. الفيدرالية لا تقسّم، بل توحد المختلفين على قاعدة الاعتراف المتبادل.

ومن يرى أنّ الفيدرالية تضعف الدولة، عليه أن يسأل: أي دولة بقيت أصلاً..؟. أهي الدولة التي تبيع قرارها للعواصم، أم الدولة التي تترك أبناءها في خيام النزوح..؟.

الوحدة الحقيقية لا تُبنى بالقوة، بل بالعدالة. والعدالة لا تُضمن إلا بعقد فيدرالي، يوزع السلطة والثروة والقرار.

– نحو عقد اجتماعي جديد

القرار 2254 يفتح الباب لانتقال سياسي، لكن هذا الانتقال سيبقى ناقصاً إن لم يتوج بدستور جديد يعترف بالتعددية ويؤسس لفيدرالية واضحة المعالم.

فيدرالية تضمن الحقوق الثقافية والسياسية لكل المكونات.

فيدرالية تُعيد اللاجئ إلى بيته مطمئناً أنّ هويته لن تكون سبباً في اضطهاده.

فيدرالية تُخرج سوريا من منطق “الأغلبية القابضة” إلى منطق الشراكة العادلة.

– الخاتمة

قد يختلف السوريون على كل شيء: على التاريخ، على الرايات، على الأصدقاء والأعداء. لكنهم يتفقون على شيء واحد: أنّ المركزية القديمة قتلتهم جميعاً، بلا استثناء.

الفيدرالية ليست حلاً مثالياً، لكنها الحل الممكن، الحل الوحيد، الحل الذي يحوّل الشتات إلى اتحاد.

هي الخلاص من دوامة الدماء، وبداية الطريق نحو دولة تُدار بالعقل لا بالقبضة، بالعدالة لا بالولاء، وبالمواطنة لا بالهوية الضيقة.

سوريا لن تقوم من رمادها إلا بدولة اتحادية فيدرالية، تعترف بالجميع، وتجمع الجميع… تحت سقف واحد.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…