حين تبكي الجبال وتحتضر الرمال

بوتان زيباري

في ذلك المساء المتشظي بين رماد الساحل وحرائق البادية، لم تكن زيارة أسعد الشيباني إلى موسكو سوى نداء استغاثة مقنّع، كأنّها رسالة ألقتها سفينة تغرق، لا إلى شاطئ النجاة، بل إلى عواصفٍ أشد. لم يكن الدافع دمشق، بل أنقرة. هي التي أملَت على الشيباني خطاه، ورسمت له طريق الندم المغلّف بالتنازلات.

فتركيا، وقد شعرت أن رمال الجغرافيا بدأت تُفلت من بين أصابعها، رتّبت المسرح، وأرسلت الممثل، وأدارت الكواليس. فالسويداء كانت تنزف، والغرب بدأ يهمس: هل بقي في دمشق من يمكن الوثوق به؟ أما بيدرسون، فخطّ تقريراً ليس كغيره، بل أشبه بصفارة إنذارٍ عالمي، هزّت جدران النظام الذي ظنّ أنّه خالد.

وهنا، لم تتأخر روسيا. دخلت المشهد كقيصر جريح يستعيد سلطانه. أرادت أن تُثبت للعالم أنّها ما تزال الحَكَم، وأنّها قادرة على ليّ ذراع الجميع: الشرع، والغرب، وأنقرة نفسها. “وحدة الأراضي السورية” لم تكن شعاراً سيادياً، بل إنذاراً: روسيا باقية، وحضورها لا يُفاوض عليه أحد.

في المقابل، طهران تمشي على الجمر. تحبس أنفاسها، تُقايض الوقت بالصبر، وتُعيد شحن خطابها الطائفي، كأنّها تُدرك أنّ كل جريمة جديدة في الساحل هي وقود لمحرّكاتها في الضاحية وبغداد. فحين يُذبح الدروز، تُولد مقولات المقاومة من جديد، وتُمسح ذاكرة الدماء باسم “الدرع”.

لكن الكارثة لا تقف هناك. في شرق الفرات، تُنفخ في نار العشائر، وكأنّ الجغرافيا لم تتعلّم من تاريخها. فَزعةٌ يُروّج لها من غرفٍ بعيدة، تقود شباباً بسطاء إلى معركة لا راية فيها سوى الوهم، ولا غاية لها سوى تكرار المأساة. قسد ليست خصماً سهلاً، ولا النظام صديقاً وفياً. وما يُحاك ليس تحريراً، بل تضحية بأبناء العشائر في مسرح تسوية دولية لم تبدأ بعد.

فلا تنتظروا من دمشق نصراً، ولا من الخارج خلاصاً. انتظروا وعياً. انتظروا دولةً لا يُبنى مجدها على جماجم الفقراء، ولا تُكتب هويتها بالبندقية. انتظروا سوريا جديدة، لا شرقية ولا غربية، بل إنسانية، عادلة، واحدة.

 

السويد

03.08.2025

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…

شادي حاجي في عالم يتزايد فيه الاضطراب، وتتصاعد فيه موجات النزوح القسري نتيجة الحروب والاضطهاد، تظلّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) طوق النجاة الأخير لملايين البشر الباحثين عن الأمان. فمنظمة نشأت بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت اليوم إحدى أهم المؤسسات الإنسانية المعنية بحماية المهدَّدين في حياتهم وحقوقهم. كيف تعالج المفوضية طلبات اللجوء؟ ورغم أن الدول هي التي تمنح…

  نظام مير محمدي * شهد البرلمان الأوروبي يوم العاشر من ديسمبر/كانون الأول، الموافق لليوم العالمي لحقوق الإنسان، انعقاد مؤتمرين متتاليين رفيعي المستوى، تمحورا حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في إيران وضرورة محاسبة النظام الحاكم. وكانت السيدة مريم رجوي، الرئيسة المنتخبة للمجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، المتحدث الرئيسي في كلا الاجتماعين. في الجلسة الثانية، التي أدارها السيد ستروآن ستيفنسون،…

المهندس باسل قس نصر الله بدأت قصة قانون قيصر عندما انشقّ المصوّر العسكري السوري “فريد المذهّان” عام 2013 — والذي عُرف لاحقاً باسم “قيصر” — ومعه المهندس المدني أسامة عثمان والمعروف بلقب “سامي”، حيث نفذ المذهان أضخم عملية تسريب للصور من أجهزة الأمن ومعتقلات نظام الأسد، شملت هذه الصور آلاف المعتقلين بعد قتلهم تحت التعذيب وتعاون الإثنان في عملية…