سربست نبي.. العقل الكُردي المخفي قسرا

خوشناف سليمان

في المسار الكردي السوري، ثمة منعطفات لا يُجدي معها التجميل أو الهروب من مواجهة الواقع. إنها لحظات تتطلب إعادة بناء الخطاب وآليات التمثيل من جذورهما، ليس فقط على مستوى التحالفات، بل أيضاً في طبيعة الأشخاص والأفكار التي تتصدر المشهد. ففي ظل بنية تنظيمية هرمية، وإرث حزبي متقادم وعاجز عن التجدد، إلى جانب انسداد سياسي وخطاب أيديولوجي متآكل، تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف الفاعلية السياسية والمعرفية، لا بوصفها امتداداً للماضي، بل بوصفها قطيعة نقدية تفتح أفقاً جديداً لتحرير الصوت الكردي من الجمود والاختزال.
لقد حان الوقت لإفساح المجال أمام فاعلين من طراز مختلف: مفكرين مستقلين يتحلون بالنزاهة المعرفية، لا ينتظرون تفويضاً من أحد كي يتكلموا، ولا يخشون خسارة منصب حزبي، لأنهم ببساطة خارج منطق المحاصصة الحزبية برمّته.
يبرز د. سربست نبي، أستاذ الفلسفة في جامعة كويا، كمثال بارز على المثقف النقدي القادر على الربط بين التحليل المفاهيمي والواقع السياسي، وتفكيك الخطابات السائدة دون الوقوع في التبجيل أو العدمية. يتسم خطابه بالعقلانية والوضوح، بعيداً عن اللغة الخشبية والمفاهيم المستهلكة، في بيئة سياسية كردية تتسم بالجمود والتكرار. ورغم غياب معرفة شخصية به، فإن نتاجه الفكري يعكس استقلالاً ووضوحاً يجعله جديراً بالاهتمام. والحديث عنه لا يأتي في إطار تمجيد الأفراد أو الدعوة إلى استبدال زعيم بآخر، بل في سياق أوسع يهدف إلى إعادة الاعتبار للكفاءة الفكرية المستقلة في عملية صناعة القرار. فالمسألة تتعلق بالمنهج، لا بالأسماء.
من هذا المنظور، لا يُعد إشراك المفكرين والخبراء في التفاوض مع السلطة في دمشق ترفاً، بل ضرورة ملحّة تفرضها تعقيدات المرحلة. فالأحزاب الكردية تعاني جموداً تنظيمياً وخطابياً، وقياداتها لم تطور أدواتها أو توسع أفقها لعقود. في المقابل، توجد طاقات فكرية ومهنية مغيّبة قادرة على صياغة سردية تفاوضية عقلانية توازن بين المبادئ والمصالح، وتتحرر من الشعارات والانغلاق الحزبي. المشكلة ليست نقص الكفاءات، بل غياب الإرادة السياسية لإفساح المجال وكسر احتكار التمثيل من قبل نخب أغلقت الأفق السياسي.
من هنا، لا تُعتبر مشاركة هؤلاء بديلاً عن أحد، بل صوتاً فكرياً مستقلاً يعبر عن عمق القضية الكردية، ويقدم خطاباً تفاوضياً يتجاوز ضيق أفق الكوادر التقليدية. المطلوب هو توسيع دائرة الفاعلين عبر إشراك مفكرين وخبراء يعكس حضورهم تعقيد المسألة وتنوع مصالح مجتمعها.
نمتلك اليوم طيفاً واسعاً من المثقفين، أصحاب الرؤى والكفاءات، القادرين على إنتاج سردية جديدة عقلانية وتفاوضية، وسربست نبي مثال ساطع لهذا الاتجاه المهمَّش لصالح احتكار التمثيل. نحن لا نفتقر إلى العقول، بل إلى الشجاعة في إزاحة العقول المُقفلة عن مراكز القرار.
لم تعد القضية اليوم متعلقة بشخص بعينه، بل بمنهج ينقلنا من وهم التمثيل الخامل إلى أفق تمثيل نوعي، يستند لا إلى الولاء للراية، بل إلى الالتزام بالفكرة والقضية والمصلحة العامة. فالمراهنة المستمرة على الأطر القائمة لا تعني سوى البقاء في موقع المتفرج، بينما تُرسم التسويات الكبرى في غيابنا، ويُقال عنا ما لا نقوله نحن عن أنفسنا.
لقد تأخر الحضور الفاعل للعقل الكردي، لا بسبب انعدام الكفاءة، بل لأن المسرح ظل مشغولاً بمن يُجيدون تكرار أدوار محفوظة في مشهد لا يغير شيئاً من الواقع.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…