بَارَنْد بِيْرَاني
منذ ما يزيد على قرنين من الزمن، والكرد يخوضون كفاحًا مريرًا من أجل إقامة كيانهم المستقل على أرضهم التاريخية. نضال لم يَفتر، وتضحيات لم تتوقف، لكن النتيجة غالبًا ما كانت دون المأمول. هذه المفارقة الصارخة بين حجم التضحيات ومحدودية النتائج تقود إلى تساؤل جوهري: هل المشكلة في الآخرين أم في الذات الكردية ومعاييرها القديمة في فهم العالم والعلاقات؟
الكرد بين الحلم السياسي والواقع الجيوسياسي
منذ انهيار الدولة العثمانية وحتى اللحظة الراهنة، ظل الحلم القومي الكردي أسيرًا للتقلبات الإقليمية والدولية، ولم يُتح للكرد أبدًا فرصة ممارسة سيادة حقيقية على أرض موحدة. ورغم تعدد محاولاتهم، من جمهورية مهاباد إلى ثورات شمال العراق، فإن العامل المشترك هو غياب الحليف الدائم والاعتماد المفرط على الوعود الخارجية.
لا يمكن فهم هذه المسألة دون ربطها بـ”المعيار الكردي القديم” في قراءة التحالفات؛ إذ يُعلي الكرد من قيمة الصداقة والتعاطف الأخلاقي في بيئة دولية لا تقوم على الأخلاق، بل على المصالح البحتة. وهنا تظهر الفجوة بين المنظور العاطفي الكردي والمناخ الواقعي للسياسات الإقليمية والدولية.
معضلة الاعتماد على “الآخر” بدل بناء الذات
تكرار الرهان الكردي على “الآخر” – صديقًا كان أم قوة عظمى – يكشف عن نمطٍ ذهني متجذر، يرى في الخارج المخلّص المحتمل، أكثر مما يرى في الذات القوة القادرة. هذه النظرة لها جذور تاريخية، تعود إلى قرون من العيش ضمن إمبراطوريات متعاقبة، حيث لم يُتح للكرد فرصة تطوير نموذج حكم ذاتي طويل الأمد.
لكنّ هذا التفكير أصبح عبئًا استراتيجيًا في زمن تتقدم فيه الشعوب عبر تمكين ذاتها، لا عبر الاتكاء على وعود الخارج. إن مفهوم “الاعتماد على الحليف” قديم بقدم السياسة، لكن تحويله إلى أساس في استراتيجية التحرر هو ما يجعل القضية الكردية عرضة للتقويض في كل مرة يتبدل فيها المزاج الإقليمي.
معايير الهوية الكردية.. الحاجة لإعادة تعريف
المعيار القديم الذي يحكم تصورات الكرد للعالم يدور حول مفاهيم مثل “الوفاء”، “الشهامة”، “التاريخ المشترك”، وهي معانٍ نبيلة في حد ذاتها، لكنها غير كافية لفهم أو إدارة العلاقات المعقدة بين الدول والمصالح.
ينبغي أن تُستبدل هذه المعايير بمفاهيم استراتيجية حديثة مثل: “ميزان القوى”، “التحالفات المؤقتة”، “تحليل المخاطر”، و”الاستقلالية النسبية”. والانتقال إلى هذه المرحلة لا يتم بالشعارات، بل بوعي جمعي جديد، يبدأ من القاعدة الشعبية وينعكس في النخب السياسية والثقافية.
وعي الذات كمنطلق للتحول
الخطوة الأولى نحو التصحيح تكمن في الوعي الذاتي. وعيٌ يُمكّن الكردي من معرفة من هو، وما يملك، ومن يواجه. وهذا يتطلب نقدًا ذاتيًا صريحًا بعيدًا عن الرومانسية القومية أو جلد الذات. نقد يعترف بأن الاستمرار في تكرار النهج القديم سيقود إلى الاضمحلال، ولو بعد حين.
وفي زمن الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، لم يعد هناك وقت لتجريب القديم من جديد. من يسبق غيره في التكيّف مع هذه الأدوات، يحسم السباق. أما من يبقى أسير تصوراته العتيقة، فسيندثر، حتى ولو كانت له مظلومية تاريخية محقة.
نخبة جديدة لمعايير جديدة
المطلوب هو جيل كردي جديد، يتعامل مع القضية من منظور استراتيجي، لا من منطلق وجداني فقط. جيل يُعيد تشكيل البنية المفاهيمية لمجتمعه، ويغرس فيه مفاهيم القوة الذاتية، وفن قراءة الخرائط السياسية، وإدارة الموارد، وبناء المؤسسات المستدامة.
هذا الجيل يجب ألا ينتظر التمكين من الخارج، بل يصنع تمكينه من الداخل. وفي زمن الذكاء الاصطناعي، لم يعد من العسير أن يُنتج إعلامًا مؤثرًا، أو خططًا اقتصادية، أو استراتيجيات تفاوض، إذا وُجد الوعي والرغبة في التغيير.
هل يكترث الكرد على إعادة تعريف أنفسهم؟
التاريخ لا يرحم من لا يتطور، كما أن المستقبل لا يُمنح بل يُنتزع. إن معايير الكرد القديمة، رغم شرفها، لم تعد نافعة في معركة تقرير المصير ضمن عالم متغير. وعلى الكرد أن يختاروا: إما الاستمرار في البكاء على ندرة الأصدقاء، أو تحمل مسؤولية بناء الذات، والبدء من الصفر بوصفه الخيار الوحيد المتاح.
هذه المهمة ليست سهلة، لكن التاريخ ليس مكانًا للراحة، بل لسجال الإرادات.
————————————-
بَارَنْد بِيْرَاني: متابع من غربي كردستان