محرقة البنادق وروح جبال الكرد: لا ضير أن نتابع الميثاق- طائعين أو مكرهين- حتى آخر الحبر

إبراهيم اليوسف

 

إلى بطلات أبطال الجبال جميعاً

لقد أديتم أدواركم على أعظم وجه وليس لنا إلا أن ننحني أمام دمائكم و وجبروتكم وقاماتكم

 

في خجل المرجل

في سفح الجبل!

لم يكن في المشهد ما يدعو للزغاريد،لا، ولا ما يشبه احتفالات الانتصارات، البتة. إذ إنّ الخيمة المنصوبة في سفح الجبل لم ترفع راية، ولا رفرفت فيها ابتسامة على شفة أو شفا هاوية. كل ما هنالك كان لهيبًا يتصاعد من مرجل محايد، في مهمة صادمة، لا لطهي وليمة، بل لحرق ما كان يومًا وعدًا- منتظراً- بالتحرر. إنه السلاح، السلاح ذاته. ذاك الذي حُمِل كمن يحمل المقاتل كبده. قلبه، أُودع النار كي تلتهمه، لا كمعدن، بل كوصية مدوية في جهات الأرض وصحائف التاريخ. فمن سلّم بندقيته في” وجه” صباح اليوم الكسير، لم يسلم قطعة من معدن، بل سلّم ما يساوي روح أمّه، نشيد شقيقته، كوفية أبيه، خريطة روحه، فكرته الأولى، وصورة انتصاره المرجو.

تلك الفتاة، بل تلك الأنثى النورانية التي لم تكن تشبه بنات هذا الزمن. لم تقبل أن يطرق بابها عريسٌ، ولم تعلق وردة على باب خيمتها يومًا، بل اختارت أن تحمل بندقية كي تغني للجبل، وكأنها تحضن رائحة حبيب وفي. ولما طُلب منها- بغتة- أن تنزع السلاح،أجل السلاح.  نزعت قلبها. قلبها الذي في ألبومه صورة أم وأب وأخوة وأخوات وحبيب وقبل كل هؤلاء: وطن. لقد فكت جعبتها كما تفكُّ الأمّ “رضاعة” عن عنق رضيعها كي تودعه. فلم تنبس ببنت شفة. لم تنبس بكلمة، لكن صمتها كان أبلغ من خطب القادة، ومن بيانات السلام، بكل حماماته الوهمية أو الواقعية.

حيثما التفتّ، كان في العيون ظل شهيد. واحد من أولئك الذين ذابوا في الثلج أو احترقوا في قصف، أو فقدوا الطريق في ليل القمم. لم يعلُ صوت، إلا صوت السلاح وهو يتهاوى، لا على الأرض، بل على ذاكرة أمة أو أم تنتظر الكرنفال العظيم، أو القيامة العظمى.

سلاح يُسلم… وقلب يُذبح

لم يكن “تسليم السلاح” فعلًا إرادياً أو إداريًا كما أرادته دول متواطئة، بل كان جرحًا مشرعًا تحت شمس تموزالثقيل، وسؤالًا مفتوحًا: ماذا بعد أن يُسلَّم السلاح وتُغلق الجبهات؟ أجل. لم تنطفئ النار في المرجل، بل اشتعلت في الداخل، في صدور من تابعوا، وعجزوا عن البكاء أمام العلن، على امتداد شساعة خريطة كردستان. كانت النار تأكل السلاح، خجلى، وكان السلاح يهمس وهو يحترق: ” لم أخن، لم أُبع، لكنهم قالوا لي: كفى”!

وإنما ال”كفى” هذه،  في ثوب “الكفالة لا الكلفة لم تكن نذير نهاية، بل نوعًا من إعلان الانتصار في صورة الخسارة أو الخسارة بلغة الانتصار. انكسارًا ملفوفًا بشال السياسة، ربما خطوة تجاه تحقيق حلم أحد أعظم الأبطال في هذا الشرق الضحية.  حلم الكردي في شرق الأضحيات والأضاحي.. فما الذي يجعل مقاتلة على مشارف الشيخوخة ذات جدائل باغتها الشيب تفك سلاحها وتُسلّمه؟ أي نداء أقوى من نداء الأرض دعاها لتطأطئ رأسها بعد أربعين عامًا من البطولات، والمقاومة، والجوع، والشتاء؟ وأي وعد هذا الذي يجعل بطلات وأبطال جبال المعجزات والأساطير المشهودة المرئية يحرقون ذخيرتهم بينما تظل البنادق في رؤوس خصومهم مشرعة، مصوبة كأحقاد ضالة مضللة؟

كان السلاح عندها شقيقًا، ورفيقًا، وصدى من غابوا أمام ناظريها وهي تركض- كما دأبت- باتجاه اللهب. قصف المسيرات والطائرات، لا منه أو منها. لم يكن صكًّا بملكية، بل عهدًا. وحين سلّمته، لم تسلم طاعة، بل مرارة، إذ لم يكن الخيار خيارها، ولا التوقيت توقيتها، ولا النار نارها. كانت قسرًا تُنهي الرحلة، لا عن قناعة، بل عن خضوع للقرار الغامض الذي هبط من فوق، لعله يكتب بداية منصفة كما جاء في متون شروحات ظلت مهزومة على سطح المخيلة.

حين عاد الغائبون من رماد البنادق

وحيث كانت القامات منتصبة معتكفة على ألم غير مرئي، لم يكن ذلك تواضعًا أمام اتفاق، بل انكسارًا داخليًا لم يقوَ أحد على إنكاره. حتى العيون التي حاولت أن تتماسك، تتجلد. لم تنجُ من الاحتراق الصامت، إذ كانت كل قطعة حديد تُرمى في النار تمثل من رحل. واحدًا واحدًا كانوا يعودون. يعود الفنان محمد صابر صالح-ابن تل أفندي ومن ثم تل حجر- الذي رضعت الحليب معه من ثدي أمنا آسيا، يعود جاري وصديقي عدنان ملك الذي دون  شهادته أو خاطرته في صفحتين من دفتر مذكراتي الذي بقي معي إلى أن رجاني  بعض ذويه أن أسلمهم بقايا رائحة عدنان قبل أن يلتحق بعضهم بالجبال ليثأروا له، فسلّمتهم تين الصفحتين كما سُلّمت البنادق اليوم. يعود بعض من كانوا من عداد طالباتي وطلابي الذين غابوا، ويعود من لم تُسجّل أسماؤهم يومًا في دفاتر الحزب، لكن الجبل يعرفهم.

من هنا ها نرى أن تركيا لما يشف غليلها ببهرجات وبهجات ومهرجان حرق السلاح، كما هو مقيد في روزنامتها. لم تشبع من هذه المسرحية الدرامية، غير المصدقة من قبلي حتى الآن، ولا من قبل تلك القافة التي سارت في عرض عسكري أقرب إلى المآتم يرمون سلاحهم برفقة حتى في لحظة إعدامه. السلاح الذي طالما أبعدهم عن الرصاص والإعدام. إذ جاء على لسان أحد مسؤوليها في صورة بوم ناعق- قبح الله رسالته-  أنّ “الحل لا يكون إلا بتصفية قسد، وPIJAKبجاك، وكل المؤسسات التي تنتمي لهذه المؤسسة العملاقة ذات الدوي والحضور الكبيرين اتفقنا معها أم اختلفنا”. وهذا ما ينسف فكرة التسوية من أصلها. ذلك أن من يطالب بتصفية كل شيء لا يبحث عن سلم، بل عن استسلام مطلق.

الخطايا لا تسوّغ التصفيات

وإذا كان حزب العمال الكردستاني- وهو صاحب قضية عظمى مشروعة في مكانه، بعيداً عن تقويم سياساته، داخل جغرافياه- بما لا شأن لنا كمنتمين لخصوصية مختلفة فيه- قد أخطأ في تدخله الفج في شؤون أجزاء كردستان الأخرى. في جزئنا المجزأ، وفي خطفه القصر، وفي فرض شعاراته  وصوره وراياته على مكاننا من دون تفويض من أصحاب هذا المكان، فإنّهم أخوتنا أرومة ومستقبلاً، و هذا لا يسوّغ لتركيا أن تصفي كل ما له علاقة بالمقاومة الكردية. فثمة شهداء لم يُرسلهم “الحزب”، بل أرسلهم إيمانهم  وجراحهم وأحلامهم المعلقة بين شقوق الحدود.

وإذا كانت قسد مطالَبة اليوم بقطع العلاقة ” مع ب ك ك”، فهذا ليس انتصارًا لسياسة، بل استجابة لشرط طال انتظاره، شرط كان يمكن أن يكون بوابة للخلاص لو لم يكن مقرونًا بحملة نزع شرعية كاملة من قبل تركيا.

ذاكرة الحليب والدم والدفاتر المحروقة

وإذ ما انفكّت الصور تتوالى أمامي، لم أستطع إزاحة ملامح الطيف الأوّل: “محمد صابر”، من بؤبؤي كلتا عيني. ذاك الذي رضعنا حليب أمه معاً، والذي حمل السلاح لا ليصير مقاتلًا فحسب، بل ليصير ظلًا لكردستان وهي تمشي على حواف خريطتها، القادمة لا ريب. وحيث يعود إليّ وجه “عدنان ملك”، تعود صفحات دفتر المذكرات الأزرق التي كتبها، تلك التي بقيت في عهدتي طويلًا، حتى أعطيته لبعض أفراد عائلته بعد غيابه.

ثمّ ثمة من لا يَعرفهم قارئي ثم ثمة مقرب أو مقربة له لا أعرفهما، لكنهم جميعاً عاشوا عندي وسواي كأسماء، كعطر باقٍ في حافة الحواس. أتذكر، وأذكر “ليلاف” الطالبة التي ناقشتني في ندوة عن القصيدة الكردية، قبل أن أسمع أنها اختفت في أحد المعسكرات، وقيل إنها قُصفت، وقيل إنها تسلّلت لتسعف مصابة، طالبة أخرى. مثقفة حقيقية أعادت إلى أمها روايات كانت قد استعارتها من مكتبتي مع رسالة شكر ووداع، بعد أن أمنت لها وأ. توفيق عبدالمجيد منحة دراسية، إلى أن عادت لتحارب داعش ونلتقي هنا في ألمانيا، نلتقط صورا تذكارية فأراها قد كبرت حقاً.

تلك المقاتلة التي فكت جعبتها وأبكت جبال كردستان

وإنما الحريق، حين يمتد إلى جعبٍ حملت أسماء هؤلاء، لا يعود حريقًا، بل يكون لعنًة على الذين رتّبوا المشهد كحفل بروتوكولي. من الذي يقدر على احتمال نزع الذخيرة من خصر مقاتلة رأت في سلاحها المعادل الوحيد للعدالة؟ ومن الذي يستطيع أن يصدّق أن سيدة تجاوزت الأربعين بل الخمسين، ولم تتزوج لأن “كردستان أولى”، ستعود اليوم إلى بيت لا ألق ورونق  وروح بيت فيه، وقد غادرها السلاح كما يغادر الرفيق في منتصف المعركة؟

أما الجبل الباسل، فقد بكى، لا لأنه قد مر في لحظة هلع. إنه جبل الكرد، وهذا، فحسب، ما يكفيه وصفاً، آبائي وأجدادي لهم معه قصص وقد نمت في أحد بيوتهم الكبيرة هناك في” قرطمين”، بل لأنه رأى أبناءه يسلّمون ما تبقّى لهم من ذؤابات عمر، دون أن يضمنوا شيئًا. ورأى في عيونهم ألمًا لم يكن بسبب السياسة، بل بسبب الخيانة التي تمّت للذكرى.

حين يتفتّح الحلم من رماد البنادق

بلى. نعم. أجل، لا يمكن أن تُختزل هذه اللحظة في نار أكلت سلاحًا، بل تُقرأ كعتبة للعبور نحو وعي عملاق مختلف، من دون أن ننكر عظمة أحد وإن اختلفنا معه رأياً ورؤية. إذ إنّ الكردي الذي وقف اليوم حزينًا أمام الجمر، سيعود يومًا ليغرس في ترابه البارد بذرة حياة لا تتغذى من الدم، بل من الحلم. إنه الكردي الذي بكَى سلاحه، لكنه لم يفقد كرامته. بل أكّد أنّ حريته لا تُصاغ من رصاص فقط، بل من عناد، من صبر، من ذاكرة تعرف متى تنكسر لتنهض. وما من نار تأكل الحلم، لأن الحلم لا يُصهر، بل يتخفى في الرماد ليعود.

من هنا، فإن الغد ليس ملكًا لمن فرض بيان الاستسلام، بل لمن عاش الحريق وظل يؤمن أن الغيم فوق الجبال ما زال يحفظ اسم كردستان في ترنيماته، وهمسه. سيعيش الكردي حرًا، لا لأنه يملك دولة، بل لأنه لم ينسَ أنه خُلِق ليكون حرًا. وسيأتي زمن، تخرج فيه البنادق من الرماد لا للقتال، بل للشهادة على أن شعبًا مرّ من هنا، واحترق كي لا يحترق اسمه.

وهكذا، يغدو هذا الحريق بداية، لا نهاية. وغدًا حين تُزهِر القرى من جديد، ستظهر ثمة فتاة تحمل كتابًا لا بندقية، وسيكون الشعر أكثر من الرصاص، وسيكون الطفل الكردي، حرًا، يركض لا يهرب، آنذاك سيكتب الشاعر قصيدته في حديقة لا في فضاء ملتهب!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

مسلم شيخ حسن – كوباني يصادف الثامن من كانون الأول لحظة فارقة في التاريخ السوري الحديث. ففي مثل هذا اليوم قبل اثني عشر شهرًا انهار حكم عائلة الأسد بعد أربعة وخمسين عاماً من الدكتاتورية التي أثقلت كاهل البلاد ودفعت الشعب السوري إلى عقود من القمع والحرمان وانتهاك الحقوق الأساسية. كان سقوط النظام حدثاً انتظره السوريون لعقود إذ تحولت سوريا…

زينه عبدي ما يقارب عاماً كاملاً على سقوط النظام، لاتزال سوريا، في ظل مرحلتها الانتقالية الجديدة، تعيش واحدة من أشد المراحل السياسية تعقيداً. فالمشهد الحالي مضطرب بين مساع إعادة بناء سوريا الجديدة كدولة حقيقية من جهة والفراغ المرافق للسلطة الانتقالية من جهة أخرى، في حين، وبذات الوقت، تتصارع بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة في تخطيط ورسم ملامح المرحلة المقبلة…

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…