عدنان بدرالدين
في مقاربة جديدة بلورتها إدارة ترامب الثانية تجاه الملف السوري، عُقد في 9 تموز/يوليو 2025 اجتماع ثلاثي في العاصمة دمشق، ضمّ المبعوث الأميركي توماس باراك، والرئيس الانتقالي أحمد الشرع، والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي. اللقاء، الذي حظي بتغطية إعلامية إقليمية ودولية واسعة، تناول تفاصيل إدماج “قسد” في الجيش السوري الجديد، كترجمة لمخرجات اتفاق 10 آذار، الذي يُقدَّم اليوم كخطوة انتقالية لإعادة تشكيل الإدارة في شمال وشرق سوريا.
غير أن هذا اللقاء، وإن بدا استمرارًا لمباحثات فنية حول الإدماج الأمني، يفتح الباب أمام أسئلة أكثر جوهرية: إلى أي مدى يمكن لحكومة الشرع، أو لأي سلطة مركزية جديدة، أن تبسط سيطرتها على مناطق تُدار منذ أكثر من عقد بإدارة ذات طابع خاص، نشأت بموافقة ضمنية من نظام الأسد نفسه، وشكّلت سلطة أمر واقع، رغم أنها ظلّت بالنسبة لشرائح واسعة من المجتمع الكردي، غريبة الهوية، غامضة المشروع، ومحاطة بشكوك شعبية واسعة؟
العمال الكردستاني: على هامش القضية الكردية السورية
لم تكن الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا ثمرةً لآليات مجتمعية كردية محلية، ولا تعبيرًا عن حركة سياسية كردية تقليدية، بل كانت امتدادًا مباشرًا لمشروع حزب العمال الكردستاني، الذي رأى في الأزمة الوجودية التي واجهها نظام الأسد عام 2012 فرصةً لمدّ نفوذه، لا لوضع الكرد السوريين على الخارطة، بل لوضع مشروعه الذاتي على الخريطة السورية والدولية، عبر استخدام الورقة الكردية كأداة ضغط جيوسياسية على تركيا.
وقد نال هذا المشروع منذ البداية موافقة ضمنية من النظام السوري، ومن حليفه الإيراني، لا من منطلق الإيمان بحقوق الكرد، بل باعتباره مخرجًا مؤقتًا لاحتواء امتداد الثورة إلى المناطق الكردية، وردًا مباشرًا على دعم تركيا للمعارضة المسلحة، بما في ذلك أطرافها الإسلامية الأكثر تطرفًا. فالثقة المتبادلة القديمة بين نظام دمشق وحزب أوجلان شكّلت الأساس لهذه الخطوة غير المألوفة.
تمايز بلا شرعية
ورغم أن الإدارة الذاتية كرّست على مدى أكثر من عقد واقعًا متمايزًا بوضوح عن النموذج البعثي، فإن هذا التمايز لا يعني بالضرورة أنها تحظى بشرعية شعبية واسعة، ولا أن نموذجها يُمثّل تقدمًا في مسار إرساء الديمقراطية. ما نشأ في شرق الفرات خلال هذه الحقبة يُشكّل فعلًا ثقافة سياسية وإدارية مختلفة، لكنها ليست بالضرورة مرغوبة أو جاذبة، رغم كونها، بطريقة ما، شكّلت بديلًا عن الاستبداد والإقصاء المركزيين اللذين طبعا أنظمة الحكم في دمشق لعقود طويلة.
في نظر شريحة واسعة من المجتمع الكردي، ظلّت – وربما ستبقى – تجربة الإدارة الذاتية مشروعًا أيديولوجيًا مفروضًا من الأعلى، من طرف غريب عن التقاليد السياسية والثقافية للكرد في كردستان الغربية.
الشرع وحدود استعادة المركز
تُراهن واشنطن، من خلال باراك، على إمكانية إعادة دمج مناطق “قسد”، وخاصة الكردية منها، ضمن دولة مركزية جديدة عبر أدوات مطواعة وشخصيات “توافقية”، وعلى رأسها أحمد الشرع. غير أن أي تصور لعودة هيمنة دمشق على مناطق الإدارة الذاتية يبدو منفصلًا عن الواقع. فقد نشأت بنية سياسية وثقافية محلية ذات خصوصية، رغم ما فيها من عيوب وتناقضات، وظهر جيل كردي كامل لا يعرف الدولة المركزية إلا كتجسيد للآخر البعيد، ولا يرى فيها أي مرجعية جاذبة.
لكن هذا لا يعني أن ذلك الجيل مؤمن بالإدارة الذاتية، بل يعني ببساطة أنه نشأ في ظل واقع مغاير لا يمكن تفكيكه بقرارات عسكرية أو تفاهمات نخبوية مفروضة من خارج السياق المحلي.
واشنطن: مقاربة انتهازية
منذ البداية، تعاملت الولايات المتحدة مع “قسد” بوصفها شريكًا أمنيًا في الحرب على داعش، لا مشروعًا سياسيًا طويل الأمد، فضلًا عن أن يكون كرديًا. واليوم، حين تسعى إدارة ترامب إلى ترتيب وضع جديد يُرضي تركيا ويضمن بقاء النفوذ الأميركي في مفاصل الدولة السورية المفترضة، فإنها لا تجد حرجًا في دفع “قسد” نحو اندماج سريع في جيش يشكّل الجهاديون السابقون – وربما الحاليون – عماده ومراكز ثقله.
وتبدو واشنطن، ممثَّلةً بباراك، مصرّة على المضيّ في هذا المشروع، حتى لو تطلّب ذلك تفكيك نموذج الإدارة الذاتية بصيغته الحالية، الذي لم تعترف به واشنطن أصلًا، في تأكيد على أن المصلحة الأميركية في تحقيق التوازن مع تركيا تتقدّم على أي مراعاة لمصالح “الحليف” الكردي.
غير أن هذا الاندماج، أو الإدماج على الأصح، يصطدم بعقبات متعددة: معارضة داخلية قوية ضمن “قسد”، حساسية تركية مفرطة تجاه كل ما هو كردي، وواقع محلي متماسك نسبيًا نشأ بفعل تراكم سياسي- اجتماعي – أمني لم يعد قابلًا للتفكيك بإملاءات فوقية، أقله بالسلاسة المشتهاة.
في ثنائية القوة والزمن
لقاء باراك – الشرع – عبدي يُمثّل مؤشرًا أوليًا على تحول لا تزال مآلاته غامضة. لا الإدارة الذاتية تملك شرعية تمثيل كردي حقيقي، ولا الدولة السورية قادرة على فرض مركزيتها القديمة. وما بينهما، تتحرك واشنطن بمنطق انتهازي، تسعى من خلاله إلى ضمان مصالحها، لا إلى حل العقدة السورية.
وإذا كانت سنوات الإدارة الذاتية قد صنعت واقعًا مغايرًا عن النموذج المركزي، فإن هذا التمايز – حتى لو لم يكن مقبولًا شعبيًا – يكفي للاعتقاد بأن العودة إلى مركزية ما قبل 2011 باتت من الماضي. فالثورات لا تصنع دائمًا أنظمة أفضل، لكنها تقطع حتمًا مع أنظمة الأمس، وتفتح المجال أمام توازنات جديدة، لا يرسمها فقط فائض القوة، بل أيضًا مسارات التطور، ومناخات الريبة، وخرائط المصالح المعقّدة.
11 تموز 2025