عبد الجابر حبيب
في وجه الخوف والتصفيق الجبان
النقد هو الطريق الوحيد لبناء مجتمعٍ حيّ ووطنٍ حر. فلا حضارة نشأت دون أن يهدم أبناؤها جدران الزيف، ولا وطن نهض من كبوته إلا حين صرخ فيه الأحرار بوجه الجلاد، لا بوجه الغريب.
ولكن، النقد لا يبدأ من أعلى، بل من الداخل. من الذات أولاً. ثم يتّسع ليطال البيت، الحي، المدينة، إلى أن يطرق أبواب الدولة والنظام والسياسات. من لا يجرؤ على قول “لا” في وجه المألوف، لا يمكنه الحلم بوطنٍ مختلف.
كم هو محزن أن يهرب البعض من مواجهة الحقيقة في مدينته، ليحاضر عن شيكاغو أو واشنطن، ظنّاً منه أن نقد البعيد أكثر أمناً من فتح جراح القريب. هذا الهروب ليس فكراً… بل جبنٌ مغلّفٌ بالثقافة.
أذكر هنا مقابلة شهيرة مع حافظ الأسد، حين سأله صحفي عن غياب الحريات في سوريا، قائلاً:
“في أمريكا، يستطيع المواطن شتم الرئيس ريغان دون أن يُعتقل.”
فأجابه الأسد بابتسامة باردة:
“ونحن في سوريا أيضاً، نتمتع بالحرية الكاملة في شتم ريغان!”
هذا هو جوهر الاستبداد: أن تفتح لك نافذةً لتصرخ خارجاً، شرط أن تبقى نوافذ الداخل مغلقة.
كافكا والفم المغلق
يقول فرانز كافكا: يمكنك أن تغلق فمك، لكن لا يمكنك أن تمنع صراخ روحك.
وهذه الروح الصارخة هي ما يخشاه كل ديكتاتور. فالصمت الظاهري الذي يفرضه الطغاة لا يضمن لهم الهيمنة الكاملة، ما دامت هناك نفسٌ تتردّد خلف الجدران.
لكن، هل يكفي أن تصرخ الروح؟
لا. إن الساكت عن الحق لا يُحسب عليه أنه حيّ.
قالها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام منذ قرون: الساكت عن الحق شيطان أخرس.
وها هو فولتير يقولها أيضاً بصوتٍ فرنسيّ حادّ
“لن أوافقك على ما تقول، لكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقوله.”
عندما يتحوّل التصفيق إلى طقس عبادة:
كم من مثقفٍ اليوم يتقن فنّ التصفيق أكثر من إتقان حروف الجرّ؟
كم من شاعرٍ يُعلّق قصائده على أبواب الطغاة، ويمضي… خائفاً مهزوماً، لكنه مبتسمٌ في الصورة الجماعية؟
هناك قول جميل لغيفارا
“الصمت أحياناً خيانة.”
وقال مالك بن نبي أيضاً: الاستعمار لا يصنع طغاة، بل الشعوب التي تصمت على الطغيان تصنعهم.
نحن اليوم لسنا بحاجة إلى مزيد من التغنّي بالخراب، ولا إلى إنكار الحقيقة بحجّة “الظروف”، بل نحتاج إلى وقفة صادقة مع الذات.
نحتاج إلى أن نتساءل:
هل يستطيع المثقف اليوم أن ينقد الفساد في مكان تواجده
هل يتجرأ على الحديث عن المياه الملوثة، والخبز الذي الاقرب لعلف الحيوان منه إلى البشر ، والرواتب المؤجلة؟ من غير سبب مقنع.
هل يستطيع قول كلمة عن المحافظ، المدير، الوزير… دون أن يبتلع ريقه ثلاث مرات قبل أن يكتب سطراً؟
الدكتاتور في كل مكان
الديكتاتور ليس رجلاً واحداً. بل هو منظومة. فكرة. وهمٌ جماعيّ.
يقول جورج أورويل في روايته “1984”
“السلطة لا تتخلّى عن شيءٍ طوعاً. يجب أن تُنتزع.”
أما جون لوك؛ يأتي من الآخر ليضع النقاط على الحروف
“حين تنتهك الحكومة حقوق الشعب، تكون الثورة حقاً طبيعياً.”
فمن لا يثور على الظلم، ولو بالكلمة، فقد منح الطغيان عمراً أطول.
في مواجهة القمع، لا يكفي أن تكتب منشوراً غامضاً، أو أن تعلّق على مأساةٍ في بلدٍ بعيد.
بل الشجاعة أن تضع يدك على الجرح… وأن تسمي الظالم باسمه.
أن تبدأ من نقد ذاتك، مدينتك، مؤسساتك، وحاكمك، إن كان فاسداً.
ففي النهاية، لا الحرية تُمنَح، ولا الكرامة تُشترى…
بل تُنتَزع.
وإلّا، فانتظر دورك في الطابور.
طابور الخبز. طابور العطش. طابور القبور