من إمرالي إلى مصير الأمة الكردية: حين تُختَصر الجغرافيا بحدود الزنزانة

صلاح عمر

في زمن التحولات الكبرى، حين تهتز خرائط النفوذ، ويُعاد رسم توازنات الشرق الأوسط بالنار والدم، يخرج من زنزانة معزولة في جزيرة إمرالي، صوت يطرح مبادرة، لا تخلو من الرمزية والمكر في آن واحد. عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، يدعو إلى مؤتمر قومي كردي يقوده الرئيس مسعود بارزاني، ويقترح اجتماعاً في إمرالي يضمّ نيجيرفان بارزاني، بافل طالباني، قوباد طالباني، ومظلوم عبدي… في لحظة تبدو فيها القضية الكردية أمام مفترق لا يشبه كل ما سبق.

في الظاهر، تبدو الدعوة خطوة طال انتظارها، فالشعب الكردي، بكل جغرافياته، لم يجتمع بعد في إطار قومي جامع يعبّر عن تطلعاته، رغم وحدة الجرح والهوية والمصير. لكن السؤال الجوهري الذي يتجاوز الشكل إلى الجوهر هو: ما هدف أوجلان الحقيقي؟ وما مغزى هذا التوقيت؟ ولماذا في إمرالي بالذات؟

أوجلان لا يخرج عن السياق التركي، لا فكرياً ولا سياسياً. فمهما علت الشعارات الأممية، يبقى الرجل أسير الرؤية القومية التركية، وإن تلبّست لبوساً حداثوياً. ومبادرته هذه، كما رُشّح إعلاميًا، ليست بريئة من حسابات أنقرة. بل هي امتداد لتكتيك تركي طويل الأمد، هدفه إعادة هندسة القضية الكردية وفق مصالح الدولة التركية، وربطها استراتيجياً بأنقرة، لا بشعوبها ولا بعمقها التاريخي.

لقد رأينا هذا السيناريو من قبل. إدريس البدليسي فعلها حين أقنع الإمارات والقبائل الكردية بالتخلي عن استقلالها والانضواء تحت راية السلطنة العثمانية. ظنّ الكرد يومها أنهم يحمون أنفسهم من الفرس، فإذا بهم يفقدون مشروعهم القومي لخمسة قرون. وها هو أوجلان يعيد إنتاج اللحظة ذاتها، ولكن بلباس حديث، وتكتيك ناعم، وبتوظيف خطير للرموز الكردية الكبرى.

أن يُدعى الرئيس مسعود بارزاني لقيادة مؤتمر قومي كردي هو، بحد ذاته، اعتراف من الجميع بمكانته ودوره التاريخي والرمزي كزعيم قومي. لكن أن تأتي الدعوة من إمرالي، وأن تكون برعاية أنقرة الصامتة، وأن يجتمع في مكان السجن التركي زعماء كرد يمثلون القوى السياسية والعسكرية في كردستان العراق وسوريا، فهذا ما يثير الريبة لا الحماس.

الرسالة واضحة: تركيا تسعى لصياغة النسخة الكردية من “الميثاق المللي”، ولكن هذه المرة لا عبر السلاح بل عبر أدوات ناعمة، وعلى رأسها الحوار، والزعامة المشتركة، والبحث عن “حل قومي” تحت المظلة التركية. وهو نفس المشروع الذي حلم به أتاتورك، حين أراد أن يضم الموصل وكركوك وحلب إلى الجغرافيا التركية، مع وعد خادع بإشراك الكرد في الحكم… قبل أن ينقض العهد ويعلن تركيا دولة قومية طاردة لكل ما هو غير تركي.

إن الدعوة إلى مؤتمر قومي كردي يجب أن تأتي من رحم النضال الكردي، لا من رحم الزنازين التركية. يجب أن تولد من حاجتنا للوحدة لا من تكتيك دول تبحث عن أوراق جديدة في صراعها الإقليمي. الكرد لا يمكنهم أن يكونوا ذراعًا لأي نظام قمعي، ولا ورقة في جيب أحد، ولا بندقية مؤجّرة على حدود النزاع بين الشرق والغرب.

القضية الكردية اليوم بحاجة إلى منصة نضال قومي حقيقية، حرة، غير خاضعة لأي إملاءات أو مصالح إقليمية. وهذه المنصة لا تُبنى من فوق إلى تحت، بل من الأرض، من دماء الشهداء، من معاناة المناضلين، من صبر الأمهات، من لغة الشارع، من حلم الشباب الذي لا يريد أن يُباع مرة أخرى في سوق السياسات.

وإذا كان مظلوم عبدي، اليوم، يمثل القوة العسكرية والسياسية الأهم في كردستان سوريا، فإن عليه مسؤولية تاريخية بأن لا ينجر إلى مسرحيات تمثيل مشبوهة. عليه أن يستمع لنبض الشارع الكردي، لا لأصداء إمرالي. فكل خطوة تُبنى دون استشارة الشعب، ودون احترام تضحيات عشرات آلاف الشهداء، ستكون مجرد وهمٍ مؤقت، يُستخدم ثم يُرمى.

أما الرئيس مسعود بارزاني، وهو الذي قاد الاستفتاء على الاستقلال، وصمد في وجه الرياح، ودفع شعبه ضريبة الحلم، فله من التاريخ ما يؤهله ليقول “لا” حين تكون الدعوة مجرد فخ جديد.

الكرد في لحظة مصيرية، والعالم يعيد تشكيل نفسه. فلا يجوز أن نُلدغ من ذات الثغرة التي لدغتنا مرارًا: ثغرة الثقة بوعود الآخرين، والتنازل عن أحلامنا مقابل سلام هش، أو وعود كاذبة.

الزمان لا يرحم الشعوب التي تخون ذاكرتها، ولا التي تختار الوهم بدل الحقيقة.

لقد آن الأوان أن نقولها بملء الفم:
كردستان لا تُختصر في إمرالي، ولا تُدار من سجن. ومصير شعبنا لا يُرسم في غرف الأمن التركي. الوحدة الكردية مطلبنا، لكن بكرامة، وبقرار كردي، لا بإملاءات عثمانية جديدة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…