الانفصال… كلمة لا تخيف من يفهم التاريخ والحق

صلاح عمر

في كل مرة يُطرح فيها سؤال جاد عن مستقبل سوريا، وعن شكل الدولة التي يُفترض أن تتسع لكل مكوناتها بعد هذا الخراب الكبير، تنهض من رماد الماضي عبارات بالية لم تعد تخيف أحدًا: “الانفصال”، “التقسيم”، “الخيانة الوطنية”. يُردَّد هذا الكلام على ألسنة بعض الساسة، من داخل السلطة أو خارجها، ممن لم يتحرروا بعد من أسر الفكر البعثي، وكأنهم يعيشون في زمن لم يشهد فيه الكرد طمس هويتهم، ولا اعتقال لغتهم، ولا تهجير فتيانهم وشيبهم من أرضهم.

تكرار هذه المصطلحات الممجوجة لا يعدو كونه محاولة بائسة لإخافة الشارع السوري، ولشيطنة مكون عريق وأصيل كشعبنا الكردي، وللإيحاء بأن مطالبة هذا الشعب بحقه التاريخي هي تهديدٌ للوطن، لا تعبيرٌ عن الظلم المتراكم. إنه خطاب ينم عن عقلية إقصائية مريضة لا تستطيع تخيّل وطن يتسع لأكثر من وجه، ولا دولة تقوم على الشراكة الحقيقية والتعددية الحية، بل ترى في كل اختلاف “مؤامرة”، وفي كل طموح “خيانة”، وفي كل حلم “مشروع تقسيم”.

وهنا، لا بد من إعادة الأمور إلى نصابها. فالاستقلال، أو الانفصال كما يُحب البعض تسميته بنبرة اتهامية، ليس سلوكًا مشينًا، ولا فعلاً مجرمًا كما تحاول بعض الجهات العنصرية تصويره. بل هو حق سياسي مشروع، منصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، ويمارَس حين تستنفد الشعوب كل وسائل العيش الكريم ضمن دول قائمة. إنه تعبير عن الإرادة الجماعية لشعب يرفض أن يُلغى أو يُختزل، لا رغبة في التمزق، بل بحث عن الكرامة حين تغدو الخيارات الأخرى مستحيلة.

ولا يجب أن يُشعر أحدٌ بالخجل من هذا الحق، أو أن يضطر إلى التهرب منه إن كان مطروحًا بجدية. فالاستقلال ليس تهمة، بل فكرة، تُناقش وتُحاكم على ضوء الواقع والشرعية والشروط التاريخية والسياسية. لكنّ ذلك لا يعني تبني هذا الخيار تلقائيًا، ولا جعله شعارًا جاهزًا، لأن أي حركة استقلالية لا يمكن أن تنجح أو تكتسب شرعيتها إلا ضمن ظروف ناضجة، وسياقات طبيعية، وإرادة واضحة، لا نتيجة ردود أفعال آنية أو هروب من مواجهة التحديات داخل المجتمعات.

وفي الحقيقة، من يهاجم هذا الحق، لا يدافع عن وحدة الوطن بقدر ما يهرب من مواجهة المأزق الحقيقي: لماذا يشعر جزء من شعبك بأنه غريب في بلده؟ لماذا لا تزال تسمي لغته “غير مرخصة”، وثقافته “انفصالية”، وتاريخه “مزيفًا”؟ لماذا ترفض أن تعترف له حتى بوجوده؟ من يرفض الحوار، ويصِم الآخر بالخيانة، ثم يستغرب عندما يفكر هذا الآخر بالرحيل عن خيمة لا تقيه حرّ الصيف ولا برد الشتاء، هو كمن يطرد ضيفه ثم يلومه على طرق بابٍ آخر.

المفارقة أن الذين يتهمون الكرد اليوم بالانفصال، لم ينبسوا ببنت شفة حين اقتُطع لواء إسكندرون، ولم يقيموا الدنيا حين احتُلت الجولان، لكنهم يرتعبون من مجرّد رفع علم كردي في مهرجان ثقافي، أو من إدارة محلية في قرية كردية تعاني من الإهمال منذ عقود. كأن وجود الكرد، بحد ذاته، هو تهديد لمفهومهم الخاص للدولة، ذاك المفهوم الذي لا يرى في المواطن إلا تابعًا مطيعًا، لا شريكًا ندًّا.

منذ عام 2011، أثبت الكرد أنهم ليسوا دعاة انفصال، بل دعاة شراكة حقيقية. طرحوا مشاريع سياسية قائمة على الديمقراطية والتعددية واللامركزية، وسعوا – رغم كل التهميش – إلى بناء نموذج للإدارة الذاتية لا ينافس الدولة، بل يُكمل غيابها في كثير من الأحيان. لقد فهموا أن العدالة لا تعني الانتقام، وأن الهوية لا تُبنى على الإنكار، بل على الاعتراف المتبادل، وعلى احترام التنوع باعتباره ثروة لا خطراً.

ولذلك، فإن النقاش اليوم لا يجب أن يكون عن شرعية “الانفصال”، بل عن أسباب التفكير فيه. وإذا أردنا فعلاً الحفاظ على وحدة سوريا، فعلينا أن نبدأ بإعادة تعريفها: سوريا التي تتسع للكرد والعرب والسريان والآشوريين والتركمان والشركس وسواهم، سوريا التي تقوم على العقد الاجتماعي، لا على المرسوم الجمهوري، وعلى الشراكة الطوعية، لا على الطاعة القسرية. سوريا التي لا تُدار بعقلية اللون الواحد، ولا تُبنى بخطاب التخوين، بل تشرق من جديد حين تُصغي للذين تم تجاهلهم طويلًا.

الوطن الحقيقي لا يُبنى على إنكار الآخرين، ولا على كسر إرادتهم، بل على الاعتراف المتبادل، والتعايش القائم على العدالة والمساواة. وإذا أردنا لسوريا أن تبقى موحدة، فعلينا أولًا أن نجعلها جديرة بأن ينتمي إليها كل أبنائها، لا أن نُبقيها حكرًا على صوت واحد، وجهة واحدة، وحلمٍ واحد لا يشبه سوى من يحكم لا من يُحكَم.

فحين يصبح العيش المشترك خيارًا، لا فرضًا، وحين تُكسر أصنام التخوين والتكفير الوطني، يمكن عندها أن نتحدث عن “الوطن الواحد” بصدق لا بخوف. أما حتى ذلك الحين، فالمسؤول الحقيقي عن أي نزعة انفصالية، هو من أغلق باب الشراكة، لا من طرق باب الخلاص.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف إذ كان يمكن لشرنقة الصمت أن تكون أكثر أمنًا، وانفتاحاً على تحقيق المكاسب، وإذا كان للتأني أن يترجم حكمة، وللموقف أن يُرجأ باسم الواقعية، فإنني اخترت أن أضع اسمي حيث يتقاطع الخطر مع الانحياز. إذ لم تكن المغامرة بحثًا عن بطولة، بل اضطرارًا داخليًا، غريزيًا، لأن أقول “أنا” حين يُمسّ الضعيف. وكلما صار القول مكلفًا، قلتَه أكثر، لاسيما…

خالد بهلوي يُعدّ اختيار الكفاءات من أبرز العوامل التي تُسهم في تقدّم المجتمع ونجاح مؤسساته، إذا تم الاختيار ضمن مناخ ديمقراطي يتيح انتخابات حرّة ونزيهة، تُفرز عندها قيادات مسؤولة أمام الشعب، وتخضع للمساءلة القانونية في حال ارتكابها أخطاء مالية أو إدارية، أو في حال إهمالها قضايا وهموم من انتخبوها. عندما يُنتخب المسؤول من قبل الشعب، يجب عليه أن يعمل…

عبد الجابر حبيب في الأيام الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو يُظهر عناصر من الجيش السوري يقومون بإهانة شيخ طاعن في السن، بحلق شاربه على الملأ، في صورة تجسّد انحطاطاً أخلاقياً صارخاً، وعنفاً رمزياً مؤلماً يتجاوز الفعل ذاته. هذا المشهد ليس مجرد انتهاك فردي، بل تمثيل فجّ لطريقة تفكير أمنية ترى في الكرامة الشخصية سلاحاً يجب كسره، وفي رموز…

إبراهيم اليوسف تأسيسًا على المسار الطويل لإفناء الهوية الدرزية، لا يبدو أن المسألة متعلقة بحادثة أو خلاف طارئ، بل ها نحن أمام صفحة جديدة من كتاب ممدود بالحقد، تُضاف إليه في كل عقد ورقة نار. حيث لم يكن التاريخ الدرزي سلسلة من الانعزال عبثًا، بل ثمرة جراح طاردت هذا المكوّن منذ القرن الحادي عشر، فألجأته إلى قلاع الجبل ومخازن الصمت،…