عاصم محمود أمين
في المشهد السوري الراهن، لا يدور الصراع، كما يظن البعض، حول خرائط النفوذ العسكري أو خطوط السيطرة الجغرافية، بل يتموضع في قلب سؤال فلسفي وسياسي عميق: من يمتلك سلطة تعريف الهوية، ومن يمتلك مشروعية تمثيلها؟ إننا أمام مفارقة أنطولوجية وأخلاقية بين مشروعين يتنازعان الحاضر، ويحاولان تشكيل ملامح المستقبل، أحدهما يعيد إنتاج ماضٍ قد ولى، والآخر يجتهد في ولادة مشروع مدني لم يولد بعد.
مشروع الجولاني ليس سوى استدعاء قسري لذاكرة سلطوية أُنهكت بالدم والطائفة، وقد أُعيد تشكيلها بهيئة دينية متطرفة تحت عباءة “إمارة”، تحكم بمنطق الفتوى لا الدستور، وتؤسس شرعيتها على إلغاء الآخر، واحتكار المقدّس، ونبذ كل ما لا يندرج تحت عباءتها العقائدية. إنه مشروع يقوم على فكرة الهيمنة الرمزية والمادية معًا، حيث لا يُنظر إلى الفن أو الرمز الجمالي إلا بوصفه خطرًا على “نقاء العقيدة” و”طهارة الجماعة”.
لقد كان تحطيم تمثال الشهداء في ساحة سعد الله الجابري بحلب، لحظة رمزية كاشفة. لم يكن فعلًا عشوائيًا أو خطأً تقنيًا كما حاول الإعلام التبريري التابع للجولاني أن يُظهر، بل كان فعلًا أيديولوجيًا بامتياز. لقد مثّل هذا المشهد إعلانًا صريحًا عن نموذج سلطوي يرى في الرمزية الجمالية خصمًا وجوديًا، ويخشى من الفن لأنه يفتح أبواب التأمل، ويزعزع سلطة النص المغلق.
في هذا النموذج، الإعلام نفسه يتحوّل إلى جهاز تبرير لا مساءلة، إلى آلية للتجميل القسري للعنف، لا فضاء حر للجدل والمراجعة. وما الإعلام المعولب الخارج من أحشاء المال الخليجي إلا أحد أذرع هذا الاستبداد المقنّع بالدين، الذي لا يختلف، في جوهره، عن الاستبداد البعثي الذي حكم سوريا لعقود تحت شعارات قومية زائفة.
وعلى النقيض، تبرز حادثة الرقة – المدينة الواقعة تحت سلطة الإدارة الذاتية في روج آفا – كمشهد دال على إمكان ولادة نمط آخر من العلاقة بين السلطة والمجتمع. حين قُتل طفل برصاص عنصر من قوى الآسايش، لم تُغلق أبواب المؤسسة، ولم يُدارِ الناطق الرسمي فعل القتل خلف خطاب النفي والإنكار، بل اعترف، واعتذر، وأدان.
قد يبدو هذا التفصيل صغيرًا، لكنه في سياق البنية السياسية السورية التي تأسست طويلًا على ثقافة الإنكار والتقديس المرضي للسلطة، يمثل تحولًا عميقًا. الاعتراف بالخطأ هنا ليس مجرد سلوك أخلاقي، بل تجلٍ لمفهوم جديد للسلطة، يقرّ بأن الدولة ليست كيانًا مطلقًا فوق القانون، بل هي نتاج تعاقد إنساني، خاضع للنقد والمحاسبة والمساءلة.
إننا لا نقارن بين طهر وعهر، أو بين خير وشر مطلقَين. بل نُقارن بين مشروعين متغايرين في منطلقاتهما الوجودية:
في “إمارة الجولاني”، السلطة امتداد لعقيدة ترى في المختلف خطرًا، وفي التنوع تهديدًا، وفي الدولة وسيلة للهيمنة الدينية لا لضمان الحقوق.
أما في روج آفا، فثمّة محاولة، رغم التناقضات البنيوية، لتأسيس منظومة مدنية تعددية، تُمارس السلطة بوصفها وظيفة اجتماعية لا حقًا مقدّسًا، وتخضع للنقد لأنها لا تدّعي الكمال.
وهكذا، يتمحور السؤال الفارق:
هل السلطة فوق المجتمع، أم في خدمته؟
في المشروع الأول، يُمارَس التدمير باسم “التطهير العقائدي”، ويُشرعن الإقصاء بوصفه إصلاحًا.
وفي الثاني، يُعترف بالخطأ، لا لأنه ضعف، بل لأنه تعبير عن نضج سياسي يرى في الإنسان غاية لا وسيلة.
ما يجري في سوريا اليوم، هو أكثر من صراع سياسي. إنه صراع بين أنماط وعي، بين ذهنية تريد إعادة إنتاج الاستبداد بثياب دينية أو قومية أو ثورية، وأخرى تحاول – برغم عثراتها – أن تُرسي أسس دولة حديثة، يُصاغ دستورها من خلال العقد الاجتماعي، لا الوحي المُحتكر.
الفرق الجوهري لا يكمن في مدى قوة السلاح، بل في قدرة السلطة على تقبّل النقد، وعلى الاعتراف بأن لا أحد يحتكر الصواب، وأن الدولة لا تُبنى بالرعب، بل بالثقة والمساءلة.
لهذا، فإن روج آفا، بما لها وما عليها، تُقدّم مشروعًا حيويًا لا لأنه مثالي، بل لأنه غير مكتمل، لأنه قابل للتطور، ولأنه لا يخشى أن يرى نفسه في مرآة النقد.
في النهاية، لا يُقاس تحرّر الشعوب بعدد البنادق، بل بمدى تحرر السلطة من أوهام العصمة.
وبين من يهدم تمثالًا لأنه يخالف عقيدته، ومن يعترف بجريمة لأنه يحترم إنسانية الضحية،
يتحدد سؤال سوريا القادم:
هل نُعيد إنتاج الاستبداد بأقنعة جديدة، أم نؤسس لوطن يتسع للجميع؟