حوران حم
في كل الثورات، هناك صور تبقى في الذاكرة: طفل يحمل علماً، أمٌّ تبكي شهيدها أمام لافتة، مقاتل يرسم شعار الحرية على الجدران. لكن الصورة وحدها، مهما كانت مؤثرة، لا تكفي لتكون هوية. الهوية البصرية لأي حركة تحرر ليست فقط في الألوان والرموز، بل فيمن تمثلهم، وفيما تُغفله أو تُقصيه.
الثورة السورية، حين اندلعت، رفعت علماً بثلاث نجمات. كان هذا العلم رمزاً لمرحلة سابقة، لكنه تحوّل بسرعة إلى رمز للقطيعة مع النظام، مع الطغيان، مع القمع. لكنه، للأسف، لم يكن قطيعة مع الإقصاء. لم تكن النجوم الثلاثة كافية لتضيء ظلام التهميش الذي عاشه الكورد والدروز والعلويون والتركمان والآشوريون والسريان والأرمن… أولئك الذين لم يروا أنفسهم تماماً في هذه الراية، رغم مشاركتهم في المعاناة، وفي الثورة، وفي الحلم.
الهوية البصرية… مرآة العقد الاجتماعي
كل علم، كل شعار، كل تسمية دولة أو حركة، هو تعبير بصري عن عقد اجتماعي. وإذا كان العقد ناقصًا، فإن الصورة تكون خادعة. كيف يمكن لثورة تقول إنها لكل السوريين، أن ترفع علماً لا يعترف عملياً بتنوعهم؟ كيف يمكن لدولة ديمقراطية، أن تبقى مأسورة بهوية لغوية ودينية واحدة، في بلد غني بهذا التعدد الفسيفسائي؟
حين نقول “الهوية البصرية”، فإننا لا نعني فقط التصميم والغرافيك، بل البنية الذهنية التي تختار ما تُظهِره وما تُخفيه. إنها سياسة في صورة. إنها ميزان قوة في هيئة رموز. ولهذا، لا يمكن لأي دستور سوري قادم أن يتجاهل أهمية هذه الرموز في تمثيل الجميع.
من يحرّر، يقرّر
نحن، كمكوّن كوردي في سوريا، لم ننتظر إذناً من أحد لنكون جزءًا من هذه الأرض. شاركنا في حمايتها، وقدمنا التضحيات، وفتحنا صدورنا للرصاص، حين اختبأ كثيرون خلف الشعارات. ومن يحرّر، يقرّر. نحن لم نكن ضيوفاً على هذه الجغرافيا، بل جزءًا أصيلاً من تاريخها، ومن نسيجها الوطني.
إن اختزال الهوية السورية بعلمٍ واحد، أو بلغةٍ واحدة، أو حتى بسرديةٍ واحدة، هو استمرار لنفس منطق الإقصاء الذي خرجنا عليه. لذلك، فإن الاعتراف بجميع المكونات – الكورد، الدروز، العلويين، الآشوريين، السريان، الأرمن، التركمان – لم يعد ترفًا سياسيًا، بل أساسًا لأي بناء دستوري جديد. ليس كمنحٍ من الأكثرية، بل كحقٍّ مستحقٍّ، وشرطٍ لتحقيق السلم الأهلي الحقيقي.
الاسم، الراية، الهوية
يتساءل البعض: لماذا تغيّر اسم الدولة؟ لماذا لم تعد تُدعى “الجمهورية العربية السورية”؟ لماذا تُطرح أسماء جديدة؟ والجواب ببساطة: لأن الاسم نفسه كان جزءًا من المشكلة. كان تعبيرًا عن هيمنة سردية قومية واحدة، وطمس لكل ما عداها. اليوم، حين نطالب باسم جديد، براية جديدة، بدستور جديد، فذلك ليس ترفاً رمزياً، بل فعل تحرر. تحرر من الإنكار، ومن التذويب، ومن الاستبداد في الشكل كما في المضمون.
الثورة ليست فقط تغيير نظام. إنها تغيير معنى الانتماء، ومعنى الدولة، ومعنى المواطن. وإن لم تنجح الثورة في إنتاج هوية بصرية وسياسية تعكس تعددية سوريا، فإنها تكون قد أعادت إنتاج ما ثارت عليه.
نحو علم بألوان الجميع
ما نحتاجه اليوم، ليس تمزيق الرايات، بل إعادة رسمها بما يليق بالجميع. نحتاج إلى علمٍ جديد، لا تُختزل فيه سوريا بلون واحد. نحتاج إلى اسمٍ جديد للدولة، لا يُقصي مكونًا كاملاً منذ العنوان. نحتاج إلى خطاب سياسي، يُدرك أن صورة الأمة لا تكتمل بلا كلّ ألوانها.
فكما أن الثورة بدأت من الشارع، فإن صورتها يجب أن تبدأ من الميدان أيضًا. من أصوات الناس، من مآذنهم وكنائسهم، من لغاتهم ولهجاتهم، من لباسهم وأغانيهم، من أسماء قراهم ومدنهم، ومن قبور شهدائهم. فقط عندها، نرسم علمًا لا تُقصى فيه نجمة، ولا يُمحى فيه صوت.
|