مسلم شيخ حسن
شهدت منطقة الجزيرة السورية ولا سيما في محافظة الحسكة وبعض أجزاء من محافظة الرقة (منطقة تل أبيض) لسياسات ممنهجة منذ منتصف القرن العشرين استهدفت تغيير التركيبة السكانية لصالح النظام الحاكم في سوريا. ومن أبرز هذه السياسات “مشروع الحزام العربي العنصري” الذي بدأ تطبيقه فعلياً عام ١٩٧٠ مع وصول حزب البعث إلى السلطة. كان الهدف المعلن للمشروع هو “تحقيق الأمن القومي” إلا أن الهدف الحقيقي كان تفريغ المناطق الكردية من سكانها الأصليين وإحلال العرب محلهم في قرى و بلدات الواقعة على طول الحدود السورية التركية. وذلك بهدف صهر القومية الكردي في بوتقة القومية العربية السائدة والقضاء على تميزهم القومي ولغتهم وثقافتهم وفصلهم عن أقرانهم من الأكراد في تركيا وإمحاء الروح القومية لديهم .
في أعقاب إحصاء عام ١٩٦٢، الذي جرد فيه أكثر من ١٢٠ ألف كردي من الجنسية السورية بدأت مرحلة جديدة من التضييق على الوجود الكردي في سوريا. وفي عام ١٩٦٥، تم وضع مخطط أولي لمشروع “الحزام العربي” من قبل مسؤولي النظام البعثي إلا أن التنفيذ الفعلي بدأ في عام ١٩٧٠ بعد استلاء المقبور حافظ الأسد على السلطة. تضمن المشروع بناء “حزام عربي” بطول٤٥٠ كيلومتراً يمتد من ديريك (المالكية) شرقًا إلى الريف الغربي لمنطقة كري سبي(تل أبيض ) غربًا، بعمق يتراوح بين ١٠ و١٥ كيلومتراً في عمق المناطق الكردية .
تحت شعارات الاشتراكية العلنية أخفيت نوايا خبيثة تهدف إلى القضاء على الوجود الكردي. حيث تم الاستيلاء على آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية المنتجة التي كان يملكها المزارعون الكرد منذ أجيال، تاركة ً الفلاحون الكرد في قراهم بلا أرض محرومين من سبل عيشهم ورزق أطفالهم.
سُجلت هذه الأراضي المصادرة باسم “أملاك دولة” ثم وزِعت لاحقا ًعلى العرب الوافدين. لم تقتصر هذه السياسة على مصادرة الأراضي بل شملت أيضا ًإجبار آلاف الأسر الكردية على مغادرة قراها من خلال منعها من توسيع أو تحديث منازلها وحرمانها من الخدمات الأساسية كالمدارس والمراكز الصحية والكهرباء والمياه.
وشجعهم على مغادرة مناطقهم الأصلية عبر منح بعض العائلات الكردية قطعاً صغيرة من الأراضي الزراعية في مناطق نائية بهدف إبعادهم عن قراهم التي سكنها أجدادهم.
في البداية رفضت العشائر العربية رفضاً قاطعاً القدوم إلى المناطق الكردية تماشياً مع قيمها العشائرية الرافضة للاستيلاء على أراضي الآخرين. إلا أن عبد الله الأحمد عضو القيادة القطرية للحزب البعث قرر حل هذه المشكلة فتوجه إلى محافظة الرقة ومكث فيها عشرة أيام، قدم خلالها ضمانات أمنية ومالية للعشائر العربية وأقنعها بالانتقال إلى المناطق الحدودية الكردية.
في أوائل خريف عام ١٩٧٣، تم استقدام حوالي ٤٠٠٠ عائلة عربية من محافظتي حلب والرقة معظمهم من المتضررين من مشاريع سد الفرات. وتم توطينهم في قرى نموذجية أنشئت حديثاً ، مجهزة بجميع الخدمات الأساسية كمياه الشرب والمدارس ووحدات الإرشادية الزراعية . كما منحوا ضمانات أمنية كاملة مع الأسلحة. وخصصت لكل عائلة ما بين ٥٠ و١٥٠ دونماً من أكثر الأراضي الكردية إنتاجية على الشريط الحدودي.
ثم منحت هذه العائلات العربية سندات ملكية رسمية للأراضي وامتيازات إدارية مثل نقل سجلاتهم المدنية إلى مناطق التوطين. في الوقت نفسه، لم يسمح للكرد بنقل سجلاتهم المدنية إلى محافظة الحسكة لأي سبب من الأسباب، مما يعكس ايضاً تمييزاً متعمداً وسياسة تغيير ديموغرافي.
بالإضافة إلى التهجير، انتهجت النظام البائد سياسة قمع ممنهجة ضد اللغة والثقافة الكرديتين. حيث منعت اللغة الكردية، وأُغلقت المدارس غير المرخصة التي كانت تدرس فيها وكذلك تعرض الناشطون الكرد للاعتقال والقمع .
وبلغ عدد القرى التي أقيمت لتوطين العرب في محافظتي الحسكة والرقة أكثر من خمسين قرية. نذكر منها:
في محافظة الرقة: حروب، خانه باندران، دنايك، سليب قران، أحمديان، حرية، هوالكي ،جارخ ، بئر كيتك ، الدهماء، الهنادي.
في محافظة الحسكة: بانه قسري، كري فرا، وانكي، مصطفاوية، رميلان، تل علو1، تل علو2، الجوادية، شبك، ماشوق، توكل، كرديم حليمي، مزكفت، تربة سبي، حلوة، تنورية، أم فرسان، هيمو، الثورة، الحاتمية، أم الربيع، بهيرة، الجابرية، تل تشرين، القنيطرة، القيروان، ظهر العرب، الأسدية، برقة، تل الحضارة (تل حلف)، تل أرقم، أم عظام، المتنبي، أم النقرة، المثنى، المقرن، العنادية، الراوية،تل خنزير.
زعمت النظام البائد أن العرب نزحوا بسبب غمر أراضيهم بسد الفرات لكن هذا العذر غير صحيح. فحتى بعد بناء السد تم تنفيذ مشاريع استصلاح ضخمة مثل مشروع الرائد ، الذي أنشأ 15 قرية نموذجية تضم كل منها 250 منزلاً لإيواء المتضررين. إلا أن هذه القرى ظلت شبه فارغة وسكنت لاحقاً من موظفي الدولة بينما وزعت الأراضي المستصلحة في تلك المناطق والقرى على الفلاحين والعمال الزراعيين المحليين. وهذا ما يثبت أن الهدف الحقيقي للمشروع لم يكن إنقاذ العرب المتضررين بل تعريب الجزيرة وتغيير طابعها الديموغرافي.
ادى مشروع الحزام العربي الى تغير التركيبة السكانية للمناطق الكردية لصالح العرب وأدى إلى اضطرابات قومية استمرت لعقود. اعتبر العديد من الباحثين والمنظمات الدولية ان هذه السياسات تعد تطهيراً عرقياً وتغييراً ديموغرافياً يتعارض مع القوانين الدولية.
كما فشل المشروع في تحقيق الانسجام الاجتماعي بين العرب الوافدين والكرد الأصليين . حيث بقيت القرى العربية المستحدثة في المناطق الكردية شبه معزولة وبرزت مشاعر استياء نتيجة الظلم التاريخي الواقع على الكرد .
رغم اندلاع الثورة السورية عام ٢٠١١ وظهور الادارات الذاتية في مناطق شمال شرق سوريا لا تزال آثار مشروع الحزام العربي واضحة على أرض الواقع سواء من حيث التوزيع السكاني أو ملكية الأراضي أو البنية الاجتماعية والسياسية للمنطقة.
إن مشروع الحزام العربي لايمثل مجرد نموذج للسياسات الشوفينية التي انتهجها النظام البائد ضد الكرد بل يجسد ايضاً استخدام أدوات الدولة في تغيير الوقائع التاريخية والديمغرافية لصالح سيطرة قومية واحدة. ورغم مرور أكثر من خمسين عاماً على تنفيذه ما زالت نتائجه تلقي بظلالها الثقيلة على واقع الجزيرة السورية وتشكل تحدياً كبيراً أمام أي مشروع وطني ديمقراطي جامع في مستقبل سوريا .
1/ 7 / 2025