محاولة في فهم المضمون التحرري لانتفاضة 1925

صلاح بدرالدين

هناك مسلمات يجب التأكيد عليها قبل الخوض بالموضوع:

أولها: اندلعت الانتفاضة في مرحلة التحرر القومي في كردستان تركيا، التي تتميز بسمات خاصة من أهمها وقوف معظم طبقات وفئات المجتمع في خندق واحد ضد الاحتلال، والاضطهاد القومي، وتتعدد الاطياف، والتيارات الفكرية، والثقافية من دون التوقف طويلا على نتائج (اليوم التالي) للتحرير.

وثانيها: من الطبيعي ان يكون الطرف الاكثر شعبية يتصدر المشهد، بغض النظر من يكون شخصا، او رمزا دينيا، او وجيها اجتماعيا او قبليا، او مجموعة منظمة.

وثالثها: اندلعت انتفاضة عام 1925 في ظروف محلية – وطنية – انتصر فيها فصيلا عسكريا بقيادة كمال اتاتورك بانقلاب والبعض يقول ثورة على السلطنة العثمانية، واعلن على انقاضها الجمهورية التركية العلمانية، وبالرغم من ان الخطوة حظيت بتاييد منقطع النظير من الخندق السوفييتي الاشتراكي، الا ان الانجاز الكمالي كان يفتقر الى الحد الادنى من الديموقراطية حيث حلت الدكتاتورية الفردية العسكريتارية محل الاستبداد الامبراطوري، الى جانب الموقف الشوفيني الواضح من الكرد والاقوام الاخرى بتركيا المتعددة الشعوب، والثقافات.

ورابعها: توفر سببين وجيهين لوقوف الكرد ضد العهد الكمالي وهما الموضوع القومي بما يتعلق بمبدا حق تقرير المصير، والدفاع عن الوجود، وكذلك اشكالية المفاضلة بين سلطة عثمانية مسلمة ولكن غير عادلة، تستوعب العشرات من الشعوب والاقوام بالرغم من عدم الاعتراف الرسمي بحقوقها القومية من جهة وبين نظام سياسي دكتاتوري قومي متعصب يستخدم العنف سبيلا لتطويع الاخر المقابل.

وخامسها: في نفس الفترة الزمنية لانتفاضة الشيخ سعيد، وما قبلها بعقود شهدت اجزاء كردستان الاخرى، وكذلك دول الشرق الاوسط انتفاضات، وثورات، وتحركات جماهيرية في اطار التحرر القومي والوطني، تصدرتها وجاهات، وزعامات دينية وقبلية والامثلة كثيرة (حركات الشيخ عبيد الله النهري، والشيخ عبد السلام بارزاني) و(الحركة المهدية بالسودان – عمر المختار بليبيا – المفتي امين الحسيني بفلسطين – وكذلك الحركة الصهيونية الدينية…) هذا بالاضافة الى المفكرين النهضويين من البيئات الدينية المسيحية المارونية في لبنان ومصر، والمسلمة في دول المنطقة، وجميع تلك الحركات والفعاليات لم تكن بمعزل عن التواصل مع العالم الخارجي والتاثير والتاثر المتبادلين.

وسادسها: بعكس كل اساليب الطعن بمصداقية قادة انتفاضة 1925، حيث كان بينهم متدينون، وليبرالييون، وعلمانييون، ورجال القبائل، والاتهامات الموجهة اليهم فانهم لم يهدفوا الى اقامة نظام اسلامي على غرار الخلافة او ما شابه ذلك او العمل على استرجاع السلطنة العثمانية بقدر سعيهم الى اسقاط سلطة اتاتورك الدكتاتورية الشوفينية، وانتزاع حق تقرير المصير القومي، كما ان اتهامهم بعمالة الانكليز مجرد ادعاء باطل لسبب بسيط وهو ان الوثائق القديمة اثبتت بما لا يدع مجالا للشك ان الاستعمار البريطاني كان العائق امام حرية الكرد منذ تولى مارك سايكس حاكمية الهند والشرق الاوسط نهاية القرن التاسع عشر، كما لم يكن الزعيم البريطاني المعروف تشرشل صديقا للكرد في يوم من الايام، ليس في تركيا فحسب بل بالعراق وسوريا، وايران ايضا.

لقد كتب العديد من المفكرين، والكتاب المعروفين في الاتحاد السوفييتي سابقا مثل لازارييف، والارمني آبوفيان وغيرهما عن الانتفاضة بعكس الموقف الرسمي للدولة، واعتبروها معبرة عن ارادة الكرد من اجل الحرية، وجزء من حركة التحرر القومية المعادية للظلم ومن اجل تحقيق المساواة، كما كتب عنها بنفس السياق وبشكل اوسع الدكتور الكردي العراقي كمال مظهر احمد، وكان كتاب الاستاذ حسن هوشيار اكثر عمقا لان الكاتب كان ثائرا مشاركا بالانتفاضة وكتب كشاهد عيان، وجميع هذه الكتب التي تناولت الانتفاضة تم طبعها، ونشرها من جانب رابطة كاوا للثقافة الكردية، والكتاب الاخير الذي الفه حسن هوشيار باللغة الكردية قام بترجمتها الى العربية خليل كالو.

صحيح ان الانتفاضة لم تحقق النصر لاسباب ذاتية وموضوعية، واختلال كبير في موازين القوى العسكرية، والامكانيات، ولكنها وبالرغم من كل الالام فقد تركت آثارا مشجعة لدى الراي العام، والاوساط الوطنية، والنخب الثقافية التي لم تهدا، بل واصلت الحركة نموها مستفيدة من دروس الانتفاضة بسلبياتها وايجابياتها، من جانب اخر وبسبب الانتكاسة توجه العديد من المشاركين بالانتفاضة بين اعوام 1925 – 1926 – 1927 الى بني ختي جنوب خط السكك الحديدية الفاصلة بين تركيا وسوريا، وبشكل اخص نحو منطقة الجزيرة للسهولة الجغرافية، وانضموا الى اشقائهم الكرد السوريين، واذا كان البعض منهم عادوا ادراجهم الى مواطنهم الاصلية فان العدد الاكبر منهم استقروا، وواصلوا نضالهم القومي بالاستفادة من الخبرات التي اكتسبوها من الانتفاضة، ولعب البعض منهم ادوارا في تاسيس حركة خويبون، وكذلك الحركات الاخرى وبشكل خاص في تاسيس اول تنظيم كردي سياسي سوري.

وما يتعلق بالجذور العائلية للشيخ سعيد، فقد اوضح حسن هوشيار في كتابه انه ينتمي بالاساس الى قبيلة علكان، فخذ جندكا، والافخاذ الاخرى لهذه القبيلة هي (ديبو – رمو – سينو – كاتخو) وهم من الكوجر، وموطنهم يتوزع بين مناطق ولايات (باتمان – سيرت – وان)، وقد سمعت نفس هذه الرواية من المرحوم حفيد الشيخ سعيد ملك فرات خلال لقائنا في بلدة صلاح الدين بكردستان العراق، وسمعت احد احفاده وهو رجل دين يقيم بالعاصمة التركية في احد البرامج التلفزيونية السرد نفسه مع اضافة ان اجداد العائلة في زمن العثمانيين هاجروا الى ايران في العهد الصفوي، وبسبب تعرضهم للاضطهاد لكونهم سنة غادروا ايران، بوجهتين، قسم من ابناء العمومة توجه الى السليمانية بكردستان العراق وكان من بينهم جد الشيخ محمود الحفيد (ملك كردستان غير المتوج)، والقسم الاخر وبينهم جد الشيخ سعيد توجه الى الموطن الاصلي في كردستان تركيا دشتا غرزان، هذا بحسب رواية الحفيد.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف إذ كان يمكن لشرنقة الصمت أن تكون أكثر أمنًا، وانفتاحاً على تحقيق المكاسب، وإذا كان للتأني أن يترجم حكمة، وللموقف أن يُرجأ باسم الواقعية، فإنني اخترت أن أضع اسمي حيث يتقاطع الخطر مع الانحياز. إذ لم تكن المغامرة بحثًا عن بطولة، بل اضطرارًا داخليًا، غريزيًا، لأن أقول “أنا” حين يُمسّ الضعيف. وكلما صار القول مكلفًا، قلتَه أكثر، لاسيما…

خالد بهلوي يُعدّ اختيار الكفاءات من أبرز العوامل التي تُسهم في تقدّم المجتمع ونجاح مؤسساته، إذا تم الاختيار ضمن مناخ ديمقراطي يتيح انتخابات حرّة ونزيهة، تُفرز عندها قيادات مسؤولة أمام الشعب، وتخضع للمساءلة القانونية في حال ارتكابها أخطاء مالية أو إدارية، أو في حال إهمالها قضايا وهموم من انتخبوها. عندما يُنتخب المسؤول من قبل الشعب، يجب عليه أن يعمل…

عبد الجابر حبيب في الأيام الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو يُظهر عناصر من الجيش السوري يقومون بإهانة شيخ طاعن في السن، بحلق شاربه على الملأ، في صورة تجسّد انحطاطاً أخلاقياً صارخاً، وعنفاً رمزياً مؤلماً يتجاوز الفعل ذاته. هذا المشهد ليس مجرد انتهاك فردي، بل تمثيل فجّ لطريقة تفكير أمنية ترى في الكرامة الشخصية سلاحاً يجب كسره، وفي رموز…

إبراهيم اليوسف تأسيسًا على المسار الطويل لإفناء الهوية الدرزية، لا يبدو أن المسألة متعلقة بحادثة أو خلاف طارئ، بل ها نحن أمام صفحة جديدة من كتاب ممدود بالحقد، تُضاف إليه في كل عقد ورقة نار. حيث لم يكن التاريخ الدرزي سلسلة من الانعزال عبثًا، بل ثمرة جراح طاردت هذا المكوّن منذ القرن الحادي عشر، فألجأته إلى قلاع الجبل ومخازن الصمت،…