كمائن الحضارة حين تسحق الروح بإسم النظام

ياسر بادلي

في الشرق، حيث تعصف الرياح بالفقر، وتضيق الأزقة بالهموم، عشتُ كثيرًا.
سوريا، مصر، السعودية، لبنان، الجزائر، العراق — بلدانٌ مختلفة، لكنها كانت تحتفظ بشيءٍ من الإنسانية، بفتات من دفء، بكرامةٍ لا تُشترى.
رغم القسوة، لم أشعر يومًا أنني بلا قيمة. كان هناك شيءٌ يشبه الحياة، حتى لو تشوّه.
لكن حين عبرتُ إلى الضفة الأخرى، إلى ما يسمّونه العالم المتحضّر، وجدتُ وجهاً آخر للعبودية: أنيقة، قانونية، ومبنية على نظام يبدو عادلًا من الخارج، لكنه في العمق سجنٌ بلا قضبان.
هنا، في أوروبا، يُلقى بك في مخيّمات أشبه بثكنات صامتة. يُقال لك: أنت حر، لكنك لا تملك حقّ العمل، ولا القرار.
تتحرّك، لكنك لا تعيش. تأكل، لكنك لا تختار. تنتظر وتنتظر، ملفّك في درج موظفٍ لا تعرفه، تحكمه مزاجيته، وربما أوجاعه الخاصة.
وكأنهم يعيدون تشكيلك، تفريغك، برمجتك. تُساق من مركز إلى مركز، ليس بحثًا عن كرامة، بل لتقليل الطوابير.
نعم، الطوابير هنا أنيقة ومنظّمة، لكنها تذكّرني بطوابير الخبز والغاز في سوريا الطوابير تتشابه، حتى وإن اختلفت الجغرافيا.
وهنا، تبدأ الروح في الذبول. كل شيء يُقاس بالماديات، كل قيمة تُقاس بما تملك، لا بما أنت عليه.
من كان في الشرق يفتقر المال، صار هنا يلهث وراءه، يظنّه خلاصًا، دون أن يدرك أنه فقد قلبه في الطريق.
الأخلاق؟ أصبحت صدفة نادرة.
الروح؟ تُطفأ في صمت.
أما الديمقراطية، التي غنّوا لها طويلًا، فليست سوى ستار جميل يخفي وحشًا اسمه التحكّم باسم النظام .
في الشرق، ربما عشنا القسوة، لكننا لم نفقد ذاتنا.
أما هنا يُسحق الإنسان بهدوء، كما يُفتَتُ الحجر في طاحونة الوقت.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف إذ كان يمكن لشرنقة الصمت أن تكون أكثر أمنًا، وانفتاحاً على تحقيق المكاسب، وإذا كان للتأني أن يترجم حكمة، وللموقف أن يُرجأ باسم الواقعية، فإنني اخترت أن أضع اسمي حيث يتقاطع الخطر مع الانحياز. إذ لم تكن المغامرة بحثًا عن بطولة، بل اضطرارًا داخليًا، غريزيًا، لأن أقول “أنا” حين يُمسّ الضعيف. وكلما صار القول مكلفًا، قلتَه أكثر، لاسيما…

خالد بهلوي يُعدّ اختيار الكفاءات من أبرز العوامل التي تُسهم في تقدّم المجتمع ونجاح مؤسساته، إذا تم الاختيار ضمن مناخ ديمقراطي يتيح انتخابات حرّة ونزيهة، تُفرز عندها قيادات مسؤولة أمام الشعب، وتخضع للمساءلة القانونية في حال ارتكابها أخطاء مالية أو إدارية، أو في حال إهمالها قضايا وهموم من انتخبوها. عندما يُنتخب المسؤول من قبل الشعب، يجب عليه أن يعمل…

عبد الجابر حبيب في الأيام الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو يُظهر عناصر من الجيش السوري يقومون بإهانة شيخ طاعن في السن، بحلق شاربه على الملأ، في صورة تجسّد انحطاطاً أخلاقياً صارخاً، وعنفاً رمزياً مؤلماً يتجاوز الفعل ذاته. هذا المشهد ليس مجرد انتهاك فردي، بل تمثيل فجّ لطريقة تفكير أمنية ترى في الكرامة الشخصية سلاحاً يجب كسره، وفي رموز…

إبراهيم اليوسف تأسيسًا على المسار الطويل لإفناء الهوية الدرزية، لا يبدو أن المسألة متعلقة بحادثة أو خلاف طارئ، بل ها نحن أمام صفحة جديدة من كتاب ممدود بالحقد، تُضاف إليه في كل عقد ورقة نار. حيث لم يكن التاريخ الدرزي سلسلة من الانعزال عبثًا، بل ثمرة جراح طاردت هذا المكوّن منذ القرن الحادي عشر، فألجأته إلى قلاع الجبل ومخازن الصمت،…