السوريين من رفض للجولاني الى التطبيع والتكيف معه:

عاصم محمود أمين

يشهد المشهد السوري في الأشهر السبعة الأخيرة تحوّلات عميقة في البنية الذهنية والسياسية لمكونات عدة داخل المجتمع الثوري والمعارض، لا سيما في موقفها من شخصية أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، الذي بات يحتل موقعًا مركزيًا في السلطة الحاكمة في سورية. ما كان يُعتبر سابقًا حالة شاذة وخطرًا وجوديًا على الثورة السورية، تحوّل تدريجيًا –وبصورة مقلقة – إلى ظاهرة يُتعامل معها كأمر واقع، بل ويُناقش أداؤها على المستوى الشرعي والقانوني والاخلاقي والسياسي والوطني  وكأنها جزء طبيعي من المشهد السياسي السوري .

لقد كانت المعارضة تجاه الجولاني حتى وقت قريب قائمة على أسس مبدئية وقانونية واخلاقية واضحة: خلفيته الجهادية، علاقاته بتنظيم القاعدة والنظام السوري، سجله الدموي في سورية والعراق، إضافة إلى طبيعته المبهمة والمتهمة والمشكوكة في ولاؤها للاستخبارات الخارجية ووجودها السلطوية التي تُقصي الآخرين وتُعيد إنتاج منطق الدولة الأمنية الارهابية.

غير أن هذه الاعتراضات الصلبة أخذت بالتآكل بمرور عدة أشهر، ليس نتيجة ( تحوّل إيجابي في سلوك الجولاني أو قواه)، بل نتيجة تعب سياسي ونفسي، وانكسارات سورية متتالية من قبل المجتمع الدولي وعلى رأسها الولايات الامريكية، أدت إلى تراجع الخطاب النقدي من الرفض الجذري لوجوده كظاهرة إرهابية مسوخة إلى نوع من التعايش السلبي والتكيف معه.

ما نرصده اليوم ليس فقط تغيرًا في مستوى الخطاب، بل تحوّلًا عميقًا في البنية الفكرية لبعض الفاعلين في الوسط المعارض. فبينما كان الجولاني يُرفض بوصفه تهديدًا وجوديًا على قيم الثورة السورية ومنطلقاتها عن الديمقراطية والعدالة الانتقالية وحقوق الانسان، أصبح اليوم يُنتقَد من حيث الكفاءة الإدارية، أو آلية صنع القرار، أو طبيعة التحالفات. وهذا الانزياح ليس مجرد إعادة تموضع سياسي، بل يعكس انزلاقًا خطيرًا نحو “تطبيع رموز الاستبداد الجديد”، عبر القبول بهم كقادة أمر واقع، دون مساءلة حقيقية عن ماضيهم وسلوكهم الحالي.

إنه تحوّل من الممانعة السياسية الواعية إلى تكيّف غامض وغير واعٍ، لا تفرضه قناعة بجدوى هذا النموذج السلطوي، بل إحباطٌ من (انسداد الأفق(، وعجزٌ عن صياغة بدائل وطنية جامعة. وهذا ما يجعل من هذا التكيّف شكلًا من أشكال “التطبيع الداخلي”، الذي لا يختلف في جوهره عن التطبيع بين دول وأنظمة، إذ يقوم على القبول الصامت، أو غير المعلَن، بأطرافٍ كانت مرفوضة لاعتبارات أخلاقية وسياسية جوهرية صرفة.

المفارقة أن الجولاني لم يتغير، لا في خطابه ولا في مشروعه السلطوي ولا في فكره الايديولوجي، ولا حتى في بنيته التنظيمية التي ما زالت تقوم على الإقصاء وتفكيك الفصائل، والهيمنة على المجال المدني والسياسي والديني والعسكري والاقتصادي والخدمي والصحي

. لكن (المتغير) الحقيقي كان في البيئة التي كانت تعتبر نفسها معارضة، والتي انتقلت من موقع الرفض الصارم إلى موقع التفاوض الضمني على شروط البقاء تحت حكمه.

إن هذه الحالة تعبّر عن لحظة انهيار أخلاقي في الخطاب الثوري والوطني بل حتى الحضاري، لحظة يُعاد فيها تعريف ما هو “قابل للقبول” في السياسة السورية، ويُعاد فيها تأهيل أطراف فقدت مشروعيتها منذ اللحظة الأولى لارتكازها على منطق السلاح والوصاية والقهر.

وهكذا، يتحول الجولاني، شيئًا فشيئًا، من حالة استثنائية تفرض المواجهة، إلى واقع سياسي يتم التعايش والتطبيع والتكيف معه، وربما لاحقًا البناء عليه، وكأن تاريخه الدموي وأيديولوجيته المتطرفة وممارساته السلطوية أصبحت تفاصيل ثانوية، أو “تكاليف ضرورية” لبناء كيان إداري في الجمهورية السورية.

ما يجب الالتفات إليه بجدية هو أن المشكلة لم تعد في الجولاني كفرد، بل في تهاوي معايير المعارضة نفسها. إنها الأزمة الأخلاقية والسياسية في أن يتحول خطاب المعارضة من مقاومة الاستبداد بكافة أشكاله، إلى مفاضلة بين أنماطه، والقبول بالأقل سوءًا وفق منطق براغماتي مفخخ.

وهذا التواطؤ الصامت يهدد، من حيث  يدري أصحابه، بإعادة إنتاج كل ما خرجت الثورة السورية من أجله: سلطة غير شرعية، تستند إلى القوة  لا إلى التمثيل، وتبني مشروعها على الإكراه لا على التوافق والدستور الحضاري، وتُقصي مَن يخالفها، وتحتكر تعريف الثورة والشرعية والوطنية والديمقراطية والمؤسساتية من منظور ايديولوجي ديني.

إن التطبيع مع الجولاني داخلياً اليوم ليس فقط خطأً سياسياً، بل خيانة ثورية ووطنية و فشلًا جماعيًا في الدفاع عن المبادئ المؤسسة للثورة السورية العلمانية الحقيقية. إنه تأقلم مع التشوه، وتبريرٌ للاستثناء، وقبولٌ باستمرار الطغيان في صورة جديدة. وهذا التطبيع، سواء تم باسم (الواقعية السياسية) أو “الضرورة الأمنية”، لا يغيّر من حقيقة واحدة: انه اعادة تدوير الاستبداد لكن بحلة شرعية دينية وفق مبدأ (أميرٌ إرهابي خيرٌ من علماني مستبد)، ولو بزيٍّ مختلف ولهجةٍ جديدة.

 

.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف إذ كان يمكن لشرنقة الصمت أن تكون أكثر أمنًا، وانفتاحاً على تحقيق المكاسب، وإذا كان للتأني أن يترجم حكمة، وللموقف أن يُرجأ باسم الواقعية، فإنني اخترت أن أضع اسمي حيث يتقاطع الخطر مع الانحياز. إذ لم تكن المغامرة بحثًا عن بطولة، بل اضطرارًا داخليًا، غريزيًا، لأن أقول “أنا” حين يُمسّ الضعيف. وكلما صار القول مكلفًا، قلتَه أكثر، لاسيما…

خالد بهلوي يُعدّ اختيار الكفاءات من أبرز العوامل التي تُسهم في تقدّم المجتمع ونجاح مؤسساته، إذا تم الاختيار ضمن مناخ ديمقراطي يتيح انتخابات حرّة ونزيهة، تُفرز عندها قيادات مسؤولة أمام الشعب، وتخضع للمساءلة القانونية في حال ارتكابها أخطاء مالية أو إدارية، أو في حال إهمالها قضايا وهموم من انتخبوها. عندما يُنتخب المسؤول من قبل الشعب، يجب عليه أن يعمل…

عبد الجابر حبيب في الأيام الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو يُظهر عناصر من الجيش السوري يقومون بإهانة شيخ طاعن في السن، بحلق شاربه على الملأ، في صورة تجسّد انحطاطاً أخلاقياً صارخاً، وعنفاً رمزياً مؤلماً يتجاوز الفعل ذاته. هذا المشهد ليس مجرد انتهاك فردي، بل تمثيل فجّ لطريقة تفكير أمنية ترى في الكرامة الشخصية سلاحاً يجب كسره، وفي رموز…

إبراهيم اليوسف تأسيسًا على المسار الطويل لإفناء الهوية الدرزية، لا يبدو أن المسألة متعلقة بحادثة أو خلاف طارئ، بل ها نحن أمام صفحة جديدة من كتاب ممدود بالحقد، تُضاف إليه في كل عقد ورقة نار. حيث لم يكن التاريخ الدرزي سلسلة من الانعزال عبثًا، بل ثمرة جراح طاردت هذا المكوّن منذ القرن الحادي عشر، فألجأته إلى قلاع الجبل ومخازن الصمت،…