من “صاحب البيت والضيوف” إلى دولة المواطنة: والمشاركة   تأملات في خطاب ما بعد الأسد

أكرم حسين

يُثير نص الأستاذ نادر جبلي، المنشور على صفحته الشخصية، حول الانتقال من منطق “صاحب البيت والضيف ” إلى منطق “المواطنة والمشاركة”، نقاشاً معمقاً حول مفاهيم الانتماء والسلطة والهوية في سوريا ما بعد الأسد ، وكم هو ضروري أن نواجه، في المرحلة الانتقالية، هذه الأسئلة الصعبة بوعي ومسؤولية.

فالكاتب، مشكوراً، يُحاول الابتعاد عن العقلية الإقصائية التي حكمت العلاقات بين السوريين لعقود، ويدعو إلى بناء وطن لا يهيمن فيه مكوّن على آخر، وهذا بحد ذاته موقف يستحق التقدير. لكنه، في المقابل، يُعيد إنتاج بعض المفاهيم القديمة، وإن بثوب نقدي جديد، حين يفترض ضمناً وجود “أغلبية سنية” تمتلك الحق التاريخي والأخلاقي في الحكم، ويطلب من الآخرين الاعتراف بهذا الامتياز مقابل إشراكهم. وكأن الشراكة السياسية لا تكون إلا بمكرمة من طرف على طرف، لا بوصفها حقاً متساوياً للجميع.

فالمواطنة المتساوية ليست مشروطة بالعدد، ولا بالتاريخ، ولا بحجم التضحيات، بل هي جوهر الدولة الوطنية الحديثة، التي لا تُبنى إلا على أساس المساواة الكاملة بين المواطنين، دون تمييز أو أفضلية أو شعور بالاستحقاق المسبق ، والمفارقة أن النص، وهو ينتقد عقلية الامتياز، يقع في فخ إعادة تدويرها، حين يتحدث عن “الطائفة الأمة”، ويمنحها موقع القيادة، ويُحمّلها مسؤولية تاريخية تجاه المكونات الأخرى، بدل أن يدعو إلى تفكيك هذا المنطق من أساسه.

فلا أحد يقود بحكم الانتماء، بل بحكم المشروع السياسي الذي يلبي تطلعات المواطنين عبر الانتخابات الحرة والنزيهة ، وليس لأحد أن يُطمئن الآخر لأنه “صاحب البيت”، بل لأن القانون وحده هو الفيصل ، والدولة هي الضامن، والمواطنة هي المعيار.

أما الحديث عن الاستقواء بالخارج، فرغم صحته من حيث المبدأ، إلا أنه لا يستقيم إذا أُسقط على طرف دون آخر. فجميع القوى السورية، دون استثناء، استعانت بالخارج بطريقة أو بأخرى، وبعضها لا يزال مرتبطاً بمحاور إقليمية ودولية بشكل عضوي حتى اليوم. فليس من الإنصاف، ولا من الوطنية، أن نُدين تدخلاً ونُبرر غيره….؟

لم يكن جوهر الأزمة السورية صراع طوائف أو قوميات، بل نتيجة غياب الدولة الوطنية بكل ما تحمله من معنى. الدولة التي تحترم حقوق الإنسان، وتصون الحريات، وتضمن المساواة. والمطلوب اليوم ليس توزيع الحصص، ولا تهدئة الهواجس على قاعدة من يحكم ومن عليه أن يُطمئن…!، بل إعادة تعريف الدولة نفسها على أسس جديدة، تجعل السوري مواطناً قبل أن يكون منتمياً إلى  طائفة أو قومية أو دين.

وبهذا المعنى، فإن أي حديث عن “قيادة الأغلبية” لا معنى له، لأنه ببساطة يُعيد إنتاج منطق الاستئثار والغلبة  الذي فجّر البلاد وقتل العباد . ففي دولة المواطنة: لا أغلبية ولا أقلية، ولا “صاحب بيت” ولا “ضيوف”، بل شعب واحد متعدد، لا يختلف فيه أحد إلا بمقدار ما يقدمه للمشروع الوطني الجامع.

ولا ننسى، هنا ، أننا نعيش ولادة سوريا جديدة، -أوعلى الأقل هكذا يأمله السوريون – لا تقوم على أحقية تاريخية أو غلبة عددية، بل على تعاقد حرّ، مدني، ديمقراطي، يكون فيه الجميع متساوين في الحقوق والواجبات. لا فضل لعربي على كردي، ولا لسني على علوي، ولا لرجل على امرأة، إلا بما يقدمه من التزام بالقانون والمصلحة العامة .

إن أي خطاب ، يُعيد رسم خرائط الهيمنة ، حتى لو انطلق من حسن نية ، لا يخدم إلا تكريس الأزمة وإعادة إنتاجها تحت عناوين جديدة.

ان خلاص السوريين يكمن في خروجهم جميعاً من أوهام الأكثرية والأقلية، وتجاوز خطاب المظلومية التي عانى منها الجميع ، والتوجه نحو بناء دولة وطنية حديثة، لا تنظر إلى أبنائها إلا بمعيار الشراكة والمواطنة المتساوية بعيداً عن الطائفة، اوالقومية، اوالدين، أوالتاريخ.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف إذ كان يمكن لشرنقة الصمت أن تكون أكثر أمنًا، وانفتاحاً على تحقيق المكاسب، وإذا كان للتأني أن يترجم حكمة، وللموقف أن يُرجأ باسم الواقعية، فإنني اخترت أن أضع اسمي حيث يتقاطع الخطر مع الانحياز. إذ لم تكن المغامرة بحثًا عن بطولة، بل اضطرارًا داخليًا، غريزيًا، لأن أقول “أنا” حين يُمسّ الضعيف. وكلما صار القول مكلفًا، قلتَه أكثر، لاسيما…

خالد بهلوي يُعدّ اختيار الكفاءات من أبرز العوامل التي تُسهم في تقدّم المجتمع ونجاح مؤسساته، إذا تم الاختيار ضمن مناخ ديمقراطي يتيح انتخابات حرّة ونزيهة، تُفرز عندها قيادات مسؤولة أمام الشعب، وتخضع للمساءلة القانونية في حال ارتكابها أخطاء مالية أو إدارية، أو في حال إهمالها قضايا وهموم من انتخبوها. عندما يُنتخب المسؤول من قبل الشعب، يجب عليه أن يعمل…

عبد الجابر حبيب في الأيام الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو يُظهر عناصر من الجيش السوري يقومون بإهانة شيخ طاعن في السن، بحلق شاربه على الملأ، في صورة تجسّد انحطاطاً أخلاقياً صارخاً، وعنفاً رمزياً مؤلماً يتجاوز الفعل ذاته. هذا المشهد ليس مجرد انتهاك فردي، بل تمثيل فجّ لطريقة تفكير أمنية ترى في الكرامة الشخصية سلاحاً يجب كسره، وفي رموز…

إبراهيم اليوسف تأسيسًا على المسار الطويل لإفناء الهوية الدرزية، لا يبدو أن المسألة متعلقة بحادثة أو خلاف طارئ، بل ها نحن أمام صفحة جديدة من كتاب ممدود بالحقد، تُضاف إليه في كل عقد ورقة نار. حيث لم يكن التاريخ الدرزي سلسلة من الانعزال عبثًا، بل ثمرة جراح طاردت هذا المكوّن منذ القرن الحادي عشر، فألجأته إلى قلاع الجبل ومخازن الصمت،…