إبراهيم اليوسف
لا يُقرأ كتاب الخروج إلى التاريخ لإبراهيم محمود بوصفه دراسة رد على وثيقة أمنية تعود إلى ستينيات القرن الماضي، بل بوصفه تفكيكًا معرفيًا وأخلاقيًا لوثيقة هي في جوهرها مشروع إبادة رمزية. الكاتب لا يتعامل مع ما صاغه محمد طلب هلال على أنه مجرد كتيب ممهور بتوقيع أحد ضباط الأمن السياسي في قامشلي، بل يُفكّكه بوصفه نصًّا تأسيسيًا لبنية تفكير استئصالي لا تزال تُنتج ذاتها حتى اليوم، بأقنعة مدنية أو دينية أو قومية جديدة.
لقد كتب هلال وثيقته بوحيٍ أمني، لا معرفي، مصوِّرًا الوجود الكردي فيما كان يسمى ” شمال سوريا” بوصفه تهديدًا ديموغرافيًا وجغرافيًا، وليس بوصفه امتدادًا تاريخيًا لأبناء الأرض. بلغة تقريرية قاطعة، إذ يطالب الكاتب ورجل المخابرات السوري في وثيقته أو كتيبه بإجراءات إدارية وأمنية وسياسية تهدف إلى تحجيم وجود الكرد، ومحو لغتهم، وتفكيك كتلتهم السكانية، وسحب جنسيتهم، ومنع تملكهم، وتغيير أسماء قراهم، وصولًا إلى طمس كامل للهوية.
وما يفعله الباحث إبراهيم محمود في كتابه هو إعادة تشكيل أدوات الوعي التاريخي لمواجهة هذا الخطاب، لا من خلال السجال السياسي، بل عبر مساءلة البنية الرمزية للنص، ومقاربة استمراريته في الخطاب العربي العام- سلطة ومعارضة على السواء.
لا نفيَ أفظع من الصمت
يلاحظ أن الكاتب إبراهيم محمود عندما يقف أمام آليات محو الكردي من “المشهد السوري”، فإنه لا يبدأ من الجرائم الجسدية فحسب، بل من المحو الرمزي الذي يعتبره أبشع أشكال الإقصاء. الكردي، كما صوّرته الوثيقة، لا يُعرَّف من خلال واقعه أو لغته أو تاريخه، بل من خلال موقعه الجغرافي “المريب” القريب من الحدود، ومن خلال “كتلته البشرية الزاحفة” التي تهدد التوازن القومي. هذا التوصيف ليس حياديًا، بل يُشكّل حجر الأساس في صناعة غول كردي لا ملامح له إلا التهديد، وكأن الكرديّ شبحٌ سياسي لا شعبٌ له صوت وحضور وميراث.
إن الانطلاق من الجغرافيا، كما في وثيقة الضابط العنصري هلال، هو الخدعة الكبرى: يتم اختزال الكرد في صفتهم الحدودية، لا بوصفهم شعبًا مستقرًا على أرضه، بل باعتبارهم كتلة زائدة، “مستحدثة”، كأنهم دُفعوا دفعًا إلى تخوم البلاد، أو تسللوا إليها في غفلة من التاريخ. هكذا، يفضح إبراهيم محمود المفارقة العميقة في خطاب السلطة: الكردي يُهاجم لأنه موجود، ويُنكر لأنه غير موجود في خيال السلطة القومية.
من الجسد إلى الاسم
خرائط القهر الصامت
أحد أكثر المحاور كثافة وتأثيرًا في الكتاب هو تحليل الكاتب لمسألة تغيير أسماء القرى والمدن الكردية. فحين يُجرد الكردي من اسمه، فإنه لا يفقد علامة لغوية، بل يُسحب منه الاعتراف، وتُقطع صلته بالأرض، وتُفكك روايته الذاتية. الاسم هنا ليس أداة تعريف فحسب، بل شاهد وجود، ووثيقة حقوق، ومخزون ذاكرة.
يبيّن إبراهيم محمود أن محو الأسماء الكردية لم يكن إجراءً عفويًا، بل سياسة رسمية جذرها فيما أوصى به هلال: إزالة كل ما يُمكن أن يشير إلى الكرد بوصفهم عنصرًا أصيلًا. هذا ليس فقط مسحًا على الخرائط، بل تجريف للهوية لصالح خطاب قومي أحادي يرفض التعدد ويرى في الاختلاف ضعفًا أو مؤامرة.
وتأخذ هذه السياسة أشكالًا أكثر عنفًا حين تتجلى في قانون “الإحصاء الاستثنائي” لعام 1962، الذي سحب الجنسية من أكثر من مئة وخمسين ألف كردي، واعتبرهم “غرباء مقيمين بشكل غير قانوني”. لم يكن هذا إجراءً إداريًا، بل ترجمة حرفية لما نادى به هلال في كراسته، التي اقترحت “إعادة ضبط الوضع الديموغرافي” عبر طرد من لا يُوثّق “انتماءه العربي”.
الصورة الشبحية للكردي
بين الإعلام والعدم
في أحد أكثر فصوله بلاغة وتحليلًا، يتتبع إبراهيم محمود صورة الكردي في الإعلام والخطاب الرسمي، ليُظهر كيف يتحول من كائن بشري إلى عنصر أمني. فالكردي لا يظهر في الرواية الرسمية إلا عند الخطر، أو بوصفه ورقة تُستخدم ضد الدولة، أو عميلًا لقوى أجنبية. هذه الصورة “الشبحية” تفصل بين الإنسان وظله، وتُحوّل الكردي إلى كائن افتراضي، موجود ليُدان، لا ليُفهم. ولا تتوقف هذه الإدانة عند الإعلام الرسمي، بل تتسرب إلى خطاب بعض أطياف المعارضة، التي وإن عارضت النظام سياسيًا، إلا أنها تبنت خطابًا قوميًا لا يختلف كثيرًا عن مضمون وثيقة هلال. يبرز هنا المثال الذي يورده الكاتب عن العميد المنشق أسعد الزعبي، الذي صرح أكثر من مرة بتصريحات علنية تضع الكرد في خانة الخطر والانفصال. هكذا تتحول “المعارضة” إلى نسخة مشوهة عن النظام، وتُثبت أن الهلالية ليست نصًا ميتًا، بل ذهنية متجددة تتخفى خلف كل خطاب يرفض الاعتراف بالاختلاف.
بين الوثيقة والكتاب
جرحٌ يُكتب في الجسد
يندرج كتاب الخروج إلى التاريخ لإبراهيم محمود في إطار نقد المشروع الاستئصالي الذي أسّسه محمد طلب هلال في كراسته الشهيرة، التي دعت صراحة إلى محو الوجود الكردي من الجغرافيا السورية. ولا تكمن الفجوة بين الوثيقة والكتاب في مستوى التعبير فحسب، بل في جوهر المشروعين نفسيهما: فهلال كتب نصًا يُحرّض على اجتثاث الكرد، ويصوغ خطة متكاملة لإخراجهم من المكان والهوية والتاريخ، أما محمود فيُقابل ذلك بفكرٍ يكشف الأسس العنيفة للنص، ويفكك منطقه من الداخل.
إبراهيم محمود لا يكتب بوصفه مدافعًا عن ضحية، بل فاضحًا لبنية عنف متوارثة، مستعيذا بذلك إنسانية الكردي المصادرة، ومُعيدًا إنتاج المعنى الذي سعت الوثيقة الأمنية إلى سحقه. إنه لا يرد بلغة الشعارات، بل بلغة مساءلة تُعرّي الجهاز المفاهيمي الذي يقف خلف نزع الشرعية عن وجود جماعة بأكملها.
ولأن المشروع الذي ينتقده لم يكن انفعالًا عابراً، بل سياسة دولة ممتدة، فإن ردّه لا يتوقف عند تفنيد الماضي، بل يذهب إلى صياغة تاريخ بديل يقوم على الاعتراف، لا الإقصاء؛ وعلى العدالة، لا على نقاء متخيّل. في هذا المعنى، يتجاوز الكتاب حدود الرد، ليُصبح إعلانًا عن وعي مقاوم للحذف، ومطالبة دائمة بالاسم، والمكان، والحق في التاريخ.
ما يُحسب للكاتب في هذا العمل هو وضوح الموقف الأخلاقي، واتزانه الفكري. فهو لا يكتفي بتسجيل الظلم الواقع على الشعب الكردي، بل ينتقد حتى الخطاب الكردي حين يتهرب من مساءلة الذات، وحين ينزلق إلى تكرار روايات لا تفكك بنيات الإقصاء. كما يُصر على أن العدالة ليست مطلبًا كرديًا فقط، بل اختبارًا للحس الإنساني العام. من هنا، فإن دفاعه عن الكرد لا يعني تعميم الخصومة مع كل من ينتمي إلى ما يسمى الآخر، بل خصومة مع البنية التي تُقصي المختلف بحجة الحفاظ على الصفاء القومي.
والأهم أن الكاتب يُنهي كتابه دون انتشاء نرجسي أو استسلام عاطفي، بل يدعو إلى كتابة تاريخ بديل، لا بإلغاء الآخرين، بل بفتح المجال لصوت الكردي ليُعيد تعريف نفسه، بلغته، واسمه، وتاريخه، على أرضه، لا في هامش خارطة مزيفة.
الخروج إلى التاريخ ليس كتابًا ضد وثيقة، فحسب، بل كتابة ضد الإقصاء بكل أنواعه إذ إن المؤلف لا يقدم مسوّغات الهوية الكردية ليقنع بها أحدًا، باعتبارها لا تحتاج إلى ذلك البتة، بل يُسلّط الضوء على بشاعة خطابٍ لا يرى في المختلف إلا مادة للضبط أو المسح. في عالم لا تزال فيه الحدود تُصنع من الدم، والخرائط تُرسم بالحذف، يأتي هذا الكتاب ليفتح بابًا نحو كتابة أكثر عدلًا، وقراءة أكثر تواضعًا، ونقد لا يبرر العنف، بل يفضحه حتى في ألفاظه.
وإذا كان محمد طلب هلال قد كتب وثيقته من داخل فرع أمني في قامشلي، فإن الباحث والكاتب إبراهيم محمود كتب كتابه من داخل جرح بني جلدته، لا من برج ثقافي نخبوي، بل من ساحة اللغة نفسها، حيث تُخاض المعركة الأكثر تعقيدًا: معركة الاعتراف.
دار سبيريز للطباعة والنشر- إقليم كردستان
254 ص من القطع الوسط