ثورة الشيخ سعيد بيران: صرخة كردية في وجه التتريك والإنكار

ماهين شيخاني

 تمهيد:

في بدايات القرن العشرين، وبينما كانت تركيا الكمالية تنهض على أنقاض السلطنة العثمانية، وُلدت واحدة من أبرز الثورات الكوردية الحديثة: ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925، والتي جاءت كردّ طبيعي على سياسات التتريك القسري، وقمع الهويات غير التركية، وفي مقدمتها الهوية الكوردية والإسلامية.

 من هو الشيخ سعيد..؟

الشيخ سعيد بيران (1865 – 1925) هو عالم ديني كوردي من أتباع الطريقة النقشبندية، ومن أبرز زعماء العشائر الكوردية في منطقة دياربكر. كان يُحظى بمكانة روحية واجتماعية كبيرة، وكان خطابه يجمع بين البُعد الديني والوطني، ما جعل تأثيره يتجاوز منطقته ليصل إلى عموم كوردستان الشمالية (جنوب شرق تركيا حاليًا).

 الأسباب العميقة للثورة:

  1. سياسة التتريك التي انتهجتها الجمهورية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك:

إلغاء الخلافة الإسلامية عام 1924.

حظر اللغة الكوردية والتقاليد الكوردية.

فرض الهوية القومية التركية على الجميع.

  1. الانتهاك المباشر للحقوق الدينية:

إغلاق الزوايا والتكايا والمدارس الدينية.

تجريد علماء الدين من سلطاتهم المجتمعية.

  1. إفقار المناطق الكوردية وتهميشها إداريًا واقتصاديًا.

 اندلاع الثورة:

في شباط/فبراير 1925، أعلن الشيخ سعيد مع عدد من الزعامات الكوردية الثورة في منطقة دياربكر. تمكّن الثوار من السيطرة على عدة بلدات ومدن، وهددوا العاصمة أنقرة، مما أثار ذعر السلطة الكمالية.

رفعت الثورة شعارًا مزدوجًا:

استعادة الشريعة الإسلامية.

والاعتراف بالحقوق الكوردية القومية.

لكن القيادة التركية واجهت الثورة بحزم دموي، إذ أرسلت قوات ضخمة مدعومة بالطيران والمدفعية.

 قمع الثورة وإعدام الشيخ:

بعد معارك عنيفة، تم اعتقال الشيخ سعيد وعدد من رفاقه. أُحيلوا إلى محكمة استثنائية في دياربكر، وأُدينوا بتهم “التمرد على الجمهورية”.

في 29 حزيران 1925، أُعدم الشيخ سعيد شنقًا مع 47 من رفاقه في ساحة عامة، وتم دفنهم في مكان سري.

 الأثر التاريخي:

شكّلت الثورة أول مواجهة مباشرة بين الكورد والجمهورية التركية الجديدة.

أرست مفاهيم أولية للفكر القومي الكوردي الحديث، الممزوج بالهوية الإسلامية.

دفعت السلطة إلى تصعيد سياسات الإنكار والبطش، ومنها قانون “تسوية الشرق”، الذي تضمن تهجيرًا قسريًا للكورد.

 الأصداء الدولية والثقافية:

رغم أن الثورة لم تحظَ بدعم دولي فعلي، إلا أنها لفتت أنظار العديد من الصحف الأوروبية التي تناولت قسوة القمع التركي والظلم الواقع على الكورد.

كما أن الثورة ألهمت أجيالًا لاحقة من الكورد في نضالهم، وظهرت أصداؤها في الأدب والشعر والمسرح، مثل قصائد الشاعر الكردي جكرخوين، وكتابات نوري ديرسمي.

وتحوّلت شخصية الشيخ سعيد إلى رمز قومي – وطني – ديني، يتم الاحتفاء بها في الأدب الشفاهي، والاحتفالات القومية، والذاكرة الشعبية.

 في الذاكرة الكردية:

رغم قمعها، ما زالت ثورة الشيخ سعيد تُذكر بوصفها أول صرخة منظمة في وجه مشروع “الإنسان التركي الوحيد”.

وما زال اسمه حاضرًا في القصائد والأغاني والندوات الكوردية بوصفه رمزًا للكرامة والتمرد.

 خاتمة:

ليست ثورة الشيخ سعيد بيران مجرد تمرّد قبلي أو ديني، بل هي تعبير مبكر عن رفض الكورد للطمس والهيمنة القومية التركية.

إنها لحظة تاريخية تؤكد أن الشعوب التي تُنكَر، لا تموت، بل تعود إلى التاريخ بأشكال جديدة.

“الحق الكوردي لا يُعدم بحبل مشنقة… بل يولد من جديد في كل وادٍ وجبل.”

 

شارك المقال :

1 1 vote
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف إذ كان يمكن لشرنقة الصمت أن تكون أكثر أمنًا، وانفتاحاً على تحقيق المكاسب، وإذا كان للتأني أن يترجم حكمة، وللموقف أن يُرجأ باسم الواقعية، فإنني اخترت أن أضع اسمي حيث يتقاطع الخطر مع الانحياز. إذ لم تكن المغامرة بحثًا عن بطولة، بل اضطرارًا داخليًا، غريزيًا، لأن أقول “أنا” حين يُمسّ الضعيف. وكلما صار القول مكلفًا، قلتَه أكثر، لاسيما…

خالد بهلوي يُعدّ اختيار الكفاءات من أبرز العوامل التي تُسهم في تقدّم المجتمع ونجاح مؤسساته، إذا تم الاختيار ضمن مناخ ديمقراطي يتيح انتخابات حرّة ونزيهة، تُفرز عندها قيادات مسؤولة أمام الشعب، وتخضع للمساءلة القانونية في حال ارتكابها أخطاء مالية أو إدارية، أو في حال إهمالها قضايا وهموم من انتخبوها. عندما يُنتخب المسؤول من قبل الشعب، يجب عليه أن يعمل…

عبد الجابر حبيب في الأيام الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو يُظهر عناصر من الجيش السوري يقومون بإهانة شيخ طاعن في السن، بحلق شاربه على الملأ، في صورة تجسّد انحطاطاً أخلاقياً صارخاً، وعنفاً رمزياً مؤلماً يتجاوز الفعل ذاته. هذا المشهد ليس مجرد انتهاك فردي، بل تمثيل فجّ لطريقة تفكير أمنية ترى في الكرامة الشخصية سلاحاً يجب كسره، وفي رموز…

إبراهيم اليوسف تأسيسًا على المسار الطويل لإفناء الهوية الدرزية، لا يبدو أن المسألة متعلقة بحادثة أو خلاف طارئ، بل ها نحن أمام صفحة جديدة من كتاب ممدود بالحقد، تُضاف إليه في كل عقد ورقة نار. حيث لم يكن التاريخ الدرزي سلسلة من الانعزال عبثًا، بل ثمرة جراح طاردت هذا المكوّن منذ القرن الحادي عشر، فألجأته إلى قلاع الجبل ومخازن الصمت،…