خوشناف سليمان ديبو
شكّلت “حرب الأيام الاثني عشر” الأخيرة، التي اندلعت في 13 يونيو 2025 عقب الضربات الجوية الإسرائيلية على إيران، نقطة فارقة في الديناميات الإقليمية، ليس فقط من ناحية موازين الردع التقليدية، بل أيضًا من حيث انعكاساتها على البنية الداخلية للبلاد. وقد كشفت الهجمات هشاشة البنية الأمنية للنظام في طهران، وأظهرت محدودية قدرته على احتواء التهديدات، في ظل داخل يتسم بأزمة اقتصادية خانقة، وتآكل في شرعية السلطة، وتصاعد ملموس في مؤشرات التململ الاجتماعي.
في هذا الإطار، يمكن اعتبار الحرب لحظة مفصلية في إعادة تشكيل العلاقة بين المركز الإيراني المتزعزع والأقاليم الطرفية، التي تعاني من إرث طويل من التهميش السياسي والثقافي والاقتصادي. فكلما اهتزت ركائز المركز، تشققت جدران الصمت، لتبدأ الأقاليم المهمشة في التعبير عن طموحاتها المكبوتة، مستثمرة لحظات الارتباك السياسي لتوسيع هامش المطالبة بالحقوق. وتبدو هذه اللحظة، بالنسبة للشعوب غير الفارسية في إيران ـ وفي طليعتها الشعب الكُردي ـ فرصة تاريخية لإعادة طرح موقعها داخل كيان الدولة.
في ظل هذا المناخ المتقلب، تبرز كوردستان الشرقية كمساحة استراتيجية لإعادة تعريف موقعها في معادلة الدولة الإيرانية، بوصفها قوة حية تحمل إرثًا ثقافيًا وهوية سياسية، وكونها فاعلًا سياسيًا صاعدًا يمتلك من الرصيد التاريخي والشرعية المجتمعية ما يؤهله لطرح مشروع بديل يتجاوز منطق الهيمنة والإقصاء، ويعترف بالتنوع القومي والمذهبي، ويُؤسس لعقد اجتماعي جديد يعيد توزيع السلطة والثروة بشكل عادل ومتوازن.
الكُرد وتاريخ اقتناص اللحظات
لطالما مثّلت العلاقة بين السلطة المركزية في إيران وكوردستان الشرقية نموذجًا صارخًا للإقصاء السياسي والتهميش الثقافي. ويمكن قراءة تاريخ الكورد هنا كمسار نضالي طويل تميز بقدرتهم على التقاط لحظات تفكك السلطة المركزية وتحويلها إلى فرص سياسية. وتُعد “جمهورية مهاباد” عام 1946 أبرز تعبير عن هذا المسار، حين استغل الكُرد حالة الفراغ التي أعقبت الاحتلال السوفييتي لشمال إيران، ليؤسّسوا بقيادة الرئيس الشهيد قاضي محمد، أول كيان سياسي كوردي معاصر، تحوّل لاحقًا إلى رمز مؤسس في ذاكرتهم السياسية، ومرجعية رمزية ما زالت تُلهم الأجيال الجديدة في نضالها المتواصل.
هذا النمط من استثمار فترات ضعف السلطة المركزية لم يكن حكرًا على كُرد إيران، بل تكرر في محطات عدة من التاريخ الكُردي الحديث. ففي كُردستان الشمالية (تركيا)، شكلت ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925 إحدى أبرز المحاولات الكردية المنظمة لمواجهة هيمنة الجمهورية التركية الناشئة. وقد مثّلت هذه الثورة لحظة مبكرة في تبلور الخطاب القومي الكردي بصيغته الحديثة، وأسهمت في تعميق وترسيخ الوعي القومي لدى قطاعات واسعة من الشعب الكردي.
وفي جنوب كُردستان، وتحديدًا في منطقة السليمانية، قاد الشيخ محمود الحفيد انتفاضة في مارس/آذار 1919 ضد القوات البريطانية، سعيًا لإقامة حكم ذاتي كردي. غير أن هذه المحاولة أُجهضت بفعل السياسات الاستعمارية البريطانية، التي تجاهلت التطلعات القومية للكورد، وتعاملت مع قضيتهم كورقة تفاوضية في سياق لعبة التوازنات الإقليمية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى.
وفي سبعينيات القرن الماضي، بلغ المشروع القومي الكوردي ذروة جديدة مع توقيع اتفاقية الحكم الذاتي عام 1970 بقيادة ملا مصطفى البارزاني، والتي مثّلت إنجازًا تاريخيًا مهمًا في مسار الاعتراف بالحقوق القومية للكورد داخل الدولة العراقية. غير أن تعافي نظام البعث لاحقًا وانقلاب موازين القوى أديا إلى انهيار الاتفاق، لتبدأ مرحلة من القمع الممنهج، بلغت ذروتها في حملات الإبادة الجماعية، أبرزها مجازر الأنفال وقصف مدينة حلبجة بالسلاح الكيماوي.
ثم جاءت لحظة عام 1991 كمنعطف مفصلي، حين استغل الكُرد حالة الانهيار التي عصفت بالدولة المركزية بعد حرب الخليج الثانية، وانسحاب القوات الحكومية من المناطق الكوردية، ليؤسسوا واقعًا سياسيًا جديدًا. وبفضل الدعم الدولي وفرض منطقة حظر جوي، تأسست نواة إقليم كُردستان الجنوبية، بوصفه أول كيان كوردي شبه مستقل في العصر الحديث.
في سوريا، ومع تصاعد الحرب الأهلية عام 2011 وانسحاب النظام تدريجيًا من المناطق الكُردية، نشأ فراغ أمني وسياسي كبير استثمرته بعض القوى الكُردية، معلنة تأسيس منطقة عُرفت باسم “روجآفا”.
وقد مثّل هذا المشروع تحوّلاً جديداً في تاريخ الحركة الكُردية في سوريا، إذ قام على إدارة تعددية ذات طابع محلي-تشاركي، تسعى إلى تجاوز النموذج المركزي التقليدي للدولة. وبالاستفادة من الدعم الدولي، خصوصاً خلال المعارك ضد تنظيم داعش، تمكّنت تلك القوى من ترسيخ نموذج سياسي مغاير، يرتكز ويؤسس لثقافة ومبادئ سياسية تقوم على التعددية القومية، والعلمانية، ورفض الهيمنة القومية والدينية.
ورغم التحديات البنيوية، مثل التهديدات المستمرة من تركيا، وتقلبات الدعم الدولي، ومحدودية الموارد، بقيت تجربة “روجآفا” شاهداً حياً على قدرة الكُرد على ملء فراغ السلطة المركزية، وطرح مشروع سياسي بديل يتجاوز الخطابات الكلاسيكية للهويات المغلقة. لقد مثّلت هذه التجربة تطوراً فريداً في الخطاب والممارسة الكُردية، قادرة على إنتاج نماذج حكم بديلة، أكثر انسجاماً مع تعقيدات الواقع المحلي والتحولات الجيوسياسية في المنطقة.
في المشهد الإيراني الراهن، ومع تآكل شرعية نظام ولاية الفقيه تدريجياً، وتعمق الشروخ الاجتماعية والسياسية في بنيته، يبرز سؤال جوهري: هل نحن أمام انهيار وشيك للنظام، أم أن البلاد تقف على أعتاب تبلور بدائل سياسية جديدة تُعيد رسم معادلات القوة والهوية فيها؟
وسط هذا المشهد، تطرح كُردستان الشرقية سؤالها الخاص: هل ستكون جزءاً من الحل القادم، أم تُترك مرة أخرى على هامش الأحداث لا في مركز صناعتها؟
منذ جمهورية مهاباد عام 1946، ظل الكُرد في إيران يواجهون القمع، ويصونون في المقابل حلم التحرر كجزء من وعيهم الجمعي، ينتقل من جيل إلى جيل كجزء لا يتجزأ من هوية سياسية عصية على الطمس. ومع كل تحول سياسي كبير في إيران، كانوا يأملون في فرصة للانخراط بفاعلية، لكن كثيراً ما انتهى الأمر بتوظيفهم كأدوات لا كصناع قرار.
اليوم، الفرصة قد تكون أقرب من أي وقت مضى، لكن التحديات لا تقل جسامة. إن لم يتمكن الكُرد من تجاوز انقساماتهم الداخلية، وبناء رؤية موحدة وتحالفات استراتيجية، فإنهم مهددون مجدداً بأن يُستبعدوا من معادلات التغيير. فالمركز لا يمنح الحقوق، بل تُنتزع عبر المبادرة والفعل الواعي في لحظات الارتباك. وبين احتمال انهيار النظام وصعود بدائل سياسية جديدة، يتحدد موقع كُردستان الشرقية: إما كشريك في صناعة المستقبل، أو كمجرد متلق سلبي لتداعياته.
الرهان على سقوط النظام وحده لا يكفي. ما تحتاجه روژھَەلاتی کوردستان هو مشروع سياسي واضح، وإرادة فاعلة، واستعداد لتحمّل مسؤولية الشراكة في صياغة مستقبل إيران. في لحظات تصدع الإمبراطوريات، تولد الفرص التاريخية. لكن من يحوّلها إلى مكاسب هم أولئك الذين يتحركون، لا أولئك الذين ينتظرون.