هل مِنْ مُتّعظ بدروس التاريخ؟

علي جزيري

 

يُحكى أن (حسان) ابن رئيس «الجمهورية السورية» شكري القوتلي تأخر عشر دقائق عن الدوام المدرسي ذات يوم، بيد أن مدير المدرسة (جودت الهاشمي)، أنّبَهُ وأعطاه كتاباً ممهوراً بختم المدرسة، يطلب فيه ضرورة إحضار ولي أمره، ولبى حسان حينئذ أمر المدير، لكنه عاد إلى البيت مكسور الخاطر، فاستغربت والدته عودة ابنها الوحيد في ذاك الوقت المبكر، وحين استفسرت عن ذلك، أفادها باستدعاء المدير ولي أمره.

وحين علم الرئيس بالأمر، طلب من زوجته مفتاح سيارته في الحال، فردت عقيلته: ها هي سيارة الرئاسة تنتظرك مع سائقها أمام المنزل. فردّ: ومتى استخدمتُ سيارة الوظيفة لشؤوني الخاصة؟

تناول الرئيس مفاتيح سيارته الخاصة، وطلب من حسان مصاحبته، ومضى نحو مدرسة (التجهيز الأولى) بدمشق، ودخل حرم المدرسة، فذهل المدير وهيئة التدريس والطلاب بمجيئه، وتجمّعوا للترحيب به، فاحتضنهم واحداً بعد الآخر، ثم استفسر عما حدث؟ فشرح له المدير بكل وقار وحزم عن أسفه لتأخر حسان بلا مبرر.  فاعتذر الرئيس وأثنى على المدير الذي أحسن التصرف، وألقى كلمة قائلاً: نقف بكل إحترام أمام إخلاصك وتفانيك ونفتخر بأمثالك، لأنك لا تميّز بين طلابك. ثم اختتم كلمته: بالعلم والتربية الحسنة ترتقي الأمم، وبارك الله بكم جميعاً.

ولعلنا نحتار في النهاية تُرى مَنْ هو الأجدر بالتقدير، حسان المهذب الذي نفّذ أمر مدير مدرسته بكلّ لباقة، أم جودت الهاشمي الذي ساس طلبته دون تمييز بين ابن الرئيس وغيره، أم الرئيس القوتلي الذي أبى استخدام سيارة الدولة في قضاء شأن خاص، واستجاب لأمر مدير المدرسة بكل تواضع واحترام؟!

جدير ذكره أن القوتلي تسنم رئاسة سوريا فترتين، الأولى 1943- 1949 كونه أحد أبرز رموز الاستقلال، والثانية 1955-1958 مهد فيها لإرساء دعائم هامش ديمقراطي، مازال السوريون يشيرون إليها بالبنان حتى اللحظة.  وتجلت إبان الفترتين السالفتين هوية سوريا الحقيقية والمتمثلة بـ «الجمهورية السورية»، ناهيك عن نضاله ضد السلطنة العثمانية رغم أصوله التركية، في الوقت الذي نرى فيه اليوم تهافت سوريين لتبجيل «السلطان العثماني الجديد» والتسبيح بحمده بثمن بخس.

بيد أن القوتلي ارتكب أخطاءً لاتُنسى زعزعت من هيبته، فحين تبوّأ قمة الهرم السياسي، إبان الفترة الأولى من حكمه، تشبث بمنصبه بعد انتهاء المدة التي حدّدها الدستور، ناهيك عن تفشّي الفقر والبطالة، ونهوض القوى الديمقراطية لمواجهة سياسته المنتهجة تلك، والتي أودت بإطاحة الجيش به عام 1949.  مثلما لاذ في الفترة الثانية من حكمه بـ «عبدالناصر» عام 1958، وسلّمه سوريا على طبق من ذهب، دون مراعاة الظروف الموضوعية للوحدة المصرية – السورية، في وقت كان ناصر يمارس فيه الاستبداد ويقوم بحل الأحزاب، ويزجُّ بخيرة أبناء مصر في المعتقلات بشهادة (طاهر عبدالحكيم) أحد ضحاياه، وفق ما ورد في مذكرات المذكور، والتي دوّنها سراً في المعتقل تحت عنوان (الأقدام العارية)، ناهيك عن ارتكاب رجل الرعب عبدالحميد السراج في الإقليم الشمالي جريمة تصفية الشيوعي فرج الله الحلو، وزج آلاف النشطاء الكرد واليساريين في السجون، وفي مقدمتهم الدكتور نورالدين زازا وعثمان صبري، ودفعت سوريا جرّاء ذلك ثمناً باهظاً… فهل سيتخذ القائمون الجدد في سدة الحكم بدمشق عبرة مما جرى في الأمس القريب؟

===========

صحيفة كوردستان – العدد 754

   

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف إذ كان يمكن لشرنقة الصمت أن تكون أكثر أمنًا، وانفتاحاً على تحقيق المكاسب، وإذا كان للتأني أن يترجم حكمة، وللموقف أن يُرجأ باسم الواقعية، فإنني اخترت أن أضع اسمي حيث يتقاطع الخطر مع الانحياز. إذ لم تكن المغامرة بحثًا عن بطولة، بل اضطرارًا داخليًا، غريزيًا، لأن أقول “أنا” حين يُمسّ الضعيف. وكلما صار القول مكلفًا، قلتَه أكثر، لاسيما…

خالد بهلوي يُعدّ اختيار الكفاءات من أبرز العوامل التي تُسهم في تقدّم المجتمع ونجاح مؤسساته، إذا تم الاختيار ضمن مناخ ديمقراطي يتيح انتخابات حرّة ونزيهة، تُفرز عندها قيادات مسؤولة أمام الشعب، وتخضع للمساءلة القانونية في حال ارتكابها أخطاء مالية أو إدارية، أو في حال إهمالها قضايا وهموم من انتخبوها. عندما يُنتخب المسؤول من قبل الشعب، يجب عليه أن يعمل…

عبد الجابر حبيب في الأيام الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو يُظهر عناصر من الجيش السوري يقومون بإهانة شيخ طاعن في السن، بحلق شاربه على الملأ، في صورة تجسّد انحطاطاً أخلاقياً صارخاً، وعنفاً رمزياً مؤلماً يتجاوز الفعل ذاته. هذا المشهد ليس مجرد انتهاك فردي، بل تمثيل فجّ لطريقة تفكير أمنية ترى في الكرامة الشخصية سلاحاً يجب كسره، وفي رموز…

إبراهيم اليوسف تأسيسًا على المسار الطويل لإفناء الهوية الدرزية، لا يبدو أن المسألة متعلقة بحادثة أو خلاف طارئ، بل ها نحن أمام صفحة جديدة من كتاب ممدود بالحقد، تُضاف إليه في كل عقد ورقة نار. حيث لم يكن التاريخ الدرزي سلسلة من الانعزال عبثًا، بل ثمرة جراح طاردت هذا المكوّن منذ القرن الحادي عشر، فألجأته إلى قلاع الجبل ومخازن الصمت،…