عبد الجابر حبيب
أقنعة قديمة لوجوه جديدة
تتجدد الأسماء وتتلون الأقمشة، لكنّ الفكر البعثي يظلّ قابضاً على خيوط اللعبة، كشيخٍ هرِم يرفض تسليم مفاتيح الهيكل. أولئك الذين جلسوا على مقاعد ما تُسمّى بـ”الحكومة الانتقالية”، لم يخلعوا سوى بدلاتهم العسكرية، بينما ظلت عقولهم حبيسة الصندوق القومي القديم، الصندوق الذي تنبعث منه رائحة الماضي المتعفن، وتخرج منه ألسنة نيران ما تزال تحرق كلّ فكرة حرة، وكلّ صوت متمايز.
ومع ذلك، في خضم هذا الدخان الرمادي، خرجت مبادرة حملت في جنينها أملاً، بين الجنرال مظلوم عبدي والرئيس أحمد الشرع، وكأن التاريخ قرر أن يمنح السوريين لحظة أخرى قبل السقوط الأخير. غير أن من يراقب المشهد عبر منصات التواصل الاجتماعي لا يرى سوى ضوضاء، وهتافات جوفاء، وجيوش افتراضية تسفك الدماء الرمزية على أسطح الحروف.
الفيسبوك: برلمان من لا برلمان له
ليس جديداً أن تتحوّل جدران الفيسبوك إلى ساحات حرب، لكنّ المُفجع أن يغدو السوري سيفاً على رقبة أخيه. الجملة الواحدة تُصبح فتوى، والاختلاف يتحوّل إلى خيانة. كلّ منشور يبدو كرصاصة، وكلّ تعليق كعبوة ناسفة. بين من يتمسك باسم “الجمهورية العربية السورية” كما يتمسك غريق بخشبة، وبين من يرى في الواقعية الكردية خيانة للأحلام. وأثق كل الثقة فكر يغلّب الحكمة على الجهالة.
فماذا أفادكم الاسم؟ أهو طوق نجاة أم طوقُ خنق؟ وهل العربية التي يتشدق بها أحدهم كانت يوماً مظلةً للكرامة، أم سوطاً على ظهر المختلفين؟ إن العربي الحر لو تنفس برئةٍ نظيفة في ظل النظام البائد، لكان مصيره “صدامياً”… فما بالك بالكردي الذي حُرم من أن يُسجَّل باسم والدِه؟!
الحكمة لا تُقاس بالضجيج
إن التحدي الذي يمارسه بعض شباب الكرد دون أدوات سياسية واضحة، لا يختلف كثيراً عن صوتٍ في قاعةٍ فارغة… يردّد صداه على الجدران، لكنه لا يصل إلى أحد. الحماسة مطلوبة، لكن دون مشروع واضح، لا تثمر إلا عن خيباتٍ متكررة. والأسوأ أن كل من تحدث بلغة عقلانية، اتُّهم بالتخاذل أو التواطؤ، وكأن الوطنية أصبحت اختباراً للهتاف لا للإنجاز.
والأخطر من الحماسة الغرّاء، هو أن يأتي رجل دين يتنكّر للإنسانية، ويتكلم بلسان رجل لم يفقه من الدين شيئاً سوى فذلكة كلامية، فهل تكون الفتوى هذه المرّة مدفوعة بكرهٍ موروث، أم برغبة في تصدّر مشهدٍ طائفي؟ نحنُ لا نريد فتوى من أحد. نريد قانوناً عادلاً، ومجتمعاً علمانياً، تكون فيه الشريعة خياراً شخصياً، لا سوطاً على عنق الناس. نريد وطناً يفصل ما لله عن ما للشعب، فلا يُمسكُ الظالم بزمام الاثنين معاً.
سورية الجديدة لا تبنى بالمزايدات
أن تطالب باللامركزية دون أن تحدّد نوعها، هو كمن يطالب بالدواء دون تشخيص المرض. اللامركزية ليست أغنية ترددها الجموع، بل عقد سياسي يحدد الصلاحيات والمسؤوليات. وإن كان لابد من تفاوض، فليكن تفاوض العقول لا غرائز الغضب. ليكن الحوار مستنداً إلى فهمٍ عميق لخطاب الطرف الآخر، لا إلى قراءة مشوشة من خلف الشاشة.
لابد للوفد الكردي أن يعرف أين يقف، ما هي مرجعياته في النقاش حول كافة القضايا؟ هل تعتمد على بنود أممية؟ ما هي مصالحها الفعلية على خارطة سوريا عموماً ؟ إن السياسة لا تُدار بالشعارات، بل بلغة المصالح والحقائق، بلغة تبني لا تهدم.
لا تزرعوا الكراهية
إن استخدام لغة واحدة توحِّد ولا تفرِّق، هو نصف النصر. وإن ممارسة الحوار الإيجابي عبر الإعلام والرأي العام، هو سلاح أكثر فتكاً من أي عتاد. وإن التوافق على أساس وطن واحد، ليست خيانة، بل فنٌّ من فنون البقاء. أما مشاركة أطراف دولية في الحوار، فهي لسيت استقواء بالخارج كما كان يسميه النظام البائد، شرط أن تكون وساطة لا وصاية، ومساعدة لا مصادرة للقرار. فهي وسيلة لتقارب وجهات النظر في مسائل خلافية.
لكن قبل كل ذلك، لابد من الاعتراف بأن المرحلة تتطلب عقلانية شديدة وشفافية لا هوادة فيها. إن الوفد لا يمثل حزبه، بل حلمَ شعبٍ بأكمله. وكل خطوة يخطوها يجب أن تكون محسوبة بدقة، وإلا سقطت أوراق التوت، وبان العجز.
توقفوا عن الطنين!
أما أنتم يا ذباب الإنترنت، فكفوا عن طنينكم المقزز! فالقضية أكبر من أن تحشروا أنوفكم الملوثة فيها. التفاوض مسؤولية رجال الدولة وأصحاب الاختصاص، لا هواة الشتم والتحريض. لا أحد يطلب منكم أن تصمتوا، بل أن ترتقوا. فالساحة ليست ابتدائية، والمفاوض ليس تلميذاً في صفكم. دعوا الفهلوية جانباً، واتركوا التحليل لمن يفقه أدوات السياسة لا لمن يعزف على أمنيات مفخخة.
إن من يملك خيوط اللعبة هو من يفهم أن الوقت، وإن بدا صديقاً، قد ينقلب سريعاً إلى عدوٍّ غادر. فإما أن نتّحد ونبني وطناً لكلّ السوريين، أو نترك الخراب يكتب النهاية.
وسيسأل التاريخ: من الذي نطق حين صمت الجميع؟ ومن الذي ظل يصرخ في الفراغ؟