علي شمدين
منذ أن عقدت اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة عام (١٩١٦)، والأنظمة الشوفينينة المتعاقبة على دست الحكم في البلاد لا تكف عن فبركة أبشع الأضاليل وأخطر التهم بحق الشعب الكردي في سوريا، كتهمة (التقسيم)، و(الإنفصال)، و(تشكيل إسرائيل الثانية).. وغيرها من الأكاذيب التي استخدمتها تلك الأنظمة ذريعة لقمع الكرد وإنكار حقوقهم القومية العادلة، وحاولت صهرهم وتغيير ديمغرافية مناطقهم التاريخية، وظلت توصمهم بهذه التهم الحاقدة التي تضحدها الحقائق الميدانية، وتكذبها المواقف الوطنية لحركتهم السياسية التي لم يطالب أيّ طرف من أطرافها بمطلب من هذا القبيل قط.
فقد اتخذ الشوفينيون تلك التهم والأضاليل غطاءً لتنفيذ سياساتهم الشوفينية وتمرير مشاريعهم العنصرية، ومارسوا في ظلها أبشع أساليب القمع والقهر والاستبداد بحق الشعب الكردي في سوريا، الذي أثبت عملياً مدى حرصه على وحدة البلاد، ودفاعه المستمر عن سيادتها في مواجهة الجهات الخارجية التي أباحت حدودها وأحتلت أجزاء عزيزة من ترابها، وخاصة خلال سنوات الأزمة السورية التي هيأت للكرد السوريين الظروف المناسبة لإطلاق مثل هذه الشعارات، إلّا أنهم مع ذلك ظلوا ملتزمين بوحدة البلاد وحماية حدودها، وقدموا في سبيل ذلك قوافل من الشهداء، في وقت كانت تلك الجهات الشوفينية (المعارضة، والموالاة)، التي ظلت تتهم الكرد بتهمة الإنفصال عن البلاد وتقسيمها، هي نفسها التي فتحت هذه الحدود أمام المحتلين وسهلت لهم الطريق ليحتلوا البلاد ويقسموها إلى مناطق نفوذ تابعة لها.
ولهذا فإن الشعب الكردي في سوريا، وكغيره من المكونات الوطنية الأخرى، استبشر خيراً بسقوط ذاك النظام الاستبدادي في (٨ كانون الأول ٢٠٢٤)، والذي عاثَ في البلاد فساداً ودماراً لأكثر من نصف قرن، وتفاءل ببناء نظام ديمقراطي جديد يقرّ دستورياً بوجوده كثاني أكبر مكون قومي في البلاد، ويعترف بحقوقه القومية المشروعة وفقاً للعهود والمواثيق الدولية، ولكن الإدارة الجديدة سرعان ما خيبت هذه الآمال بأفعالها الميدانية التي أسست لنظام مركزي من لون طائفي واحد، وبأقوالها التي أعادت تكرار نفس الأسطوانة المشروخة من الاتهامات والأضاليل التي ظل نظام البعث البائد يجترها ضد الشعب الكردي في سوريا طوال سنوات حكمه الدموي الذي كان يحاكم المناضلين الكرد أمام محاكمه الصورية بتهمة (محاولة اقتطاع أجزاء من سوريا وإلحاقها بدولة مجاورة)، وكان يفسر بشكل مقصود أيّ مطلب قومي، كمطلب اللامركزية والفيدرالية والإدارة الذاتية، على أنه مؤامرة إنفصالية تهدف إلى تفتيت البلاد وتقسيمها.
ولعل المتابع للإعلام الشوفيني الرسمي وغير الرسمي، يسمع بأذنيه الحملة التضليلة الشرسة التي أطلقت مؤخراً للتشويش على مطالب الكرد السوريين وحقوقهم العادلة، وخاصة تلك الحملة التي بدأت بالتوازي مع انجاز الكونفراس الكردي الذي عقد في القامشلي بتاريخ (٢٦ نيسان ٢٠٢٥)، بعنوان (كونفرانس وحدة الموقف والصف الكردي في سوريا)، والذي حضره ما يقارب الـ(٤٠٠) شخصاً من ممثلي الأحزاب الكردية والكردستانية وممثلي الفعاليات الاجتماعية والثقافية الكردية السورية، والذي تمخضت عنه وثيقة تاريخية تضمنت الرؤية الكردية المشتركة لحل القضية الكردية في سوريا الجديدة، والتي صادق عليها الحضور بالاجماع.
فما أن تم الإعلان عن هذه الرؤية الواقعية حتى سارعت تلك الجهات الشوفينية إلى التشويش عليها وتشويه مضمونها، وروجت بشكل هستيري على أن مخرجات الكونفرانس الكردي تدعو إلى الإنفصال وتساهم في تقسيم البلاد، وذلك بمجرد أن الوثيقة دعت إلى بناء نظام ديمقراطي لامركزي تطالب به أيضاً المكونات السورية الأخرى (القومية، والدينية)، باعتباره نظاماً يحترم التعددية ويرمم بنية النسيج الوطني الفسيفسائي الذي مزقه نظام البعث بحكمه المركزي الاستبدادي، ولا شك بأن هذه الجهات الشوفينية برفضها للنظام اللامركزي، إنما تريد صراحة أن تبني هي الأخرى نظاماً مركزياً أثبتت التجربة فشله خلال العهد البائد الذي قاد الدولة والمجتمع بيد من حديد، والذي كان ينتهج في قيادته الصارمة تلك سياسة (فرق تسد)، بين مكونات المجتمع السوري وشرائحه وحتى ضمن العشيرة الواحدة والعائلة الواحدة، وذلك من أجل تفتيتها وسهولة ترويضها ومن ثم التحكم بها مركزياً، ولكن الواقع الكارثي الذي يعيشه الشعب السوري اليوم يجزم بشكل قاطع بأن الضغط لا بد له أن يولد الإنفجار إن آجلاً أم عاجلاً، ولهذا فإن توجه الإدارة الجديدة نحو احتكار جميع الصلاحيات الإدارية في يد رئيس الجمهورية، وإصرارها على إدارة البلاد مركزياً، ورفضها لأية مطالبات مشروعة باللامركزية وتوزيع الصلاحيات السياسية والإدارية على الأطراف، وتقاسم الثروات معها بشكل عادل من دون تمييز قومي أو ديني، إنما هي التي تدفع بالنسيج الوطني نحو التمزق والتفتت والإنقسام، وليس العكس.
وأخيراً وليس آخراً، تظل الدقة في الإجابة على السؤال المصيري التالي: (أيهما تمزق البلاد حقاً: المركزية أم اللامركزية؟!)، والحكمة في إقناع الإدارة السورية الجديدة بها، هي التي تشكل المسؤولية التاريخية الأهم التي تقع على كاهل الوفد الكردي المتجه إلى دمشق في القريب العاجل متسلحاً بكل هذا التأييد القومي (الكردي والكردستاني)، ومحصناً إلى حد ما بدعم دولي مؤثر، هذا فضلاً عن التضامن الواسع الذي يحظى به هذا الوفد من جانب المكونات الوطنية الأخرى التي تجمعها والمكون الكردي معاناة مشتركة ومصير واحد..
٩ حزيران٢٠٢٥