تجنيس الإرهاب ووطنية المثقف الكردي

إبراهيم اليوسف

 

يبرز المثقف الكردي كعنصر فاعل في مشهد يعج بالمصالح المتضاربة والأيديولوجيات المتباينة، في عالم مضطرب، تتداخل فيه المصالح السياسية مع القيم الإنسانية، إذ لا يمكن أن يكون هذا المثقف- الناقد غير المنحاز إلى الحقيقة- مجرد مراقب سلبي في ظل التحولات السياسية الكبرى التي تشهدها سوريا والمنطقة، ولا سيما في مسألة تجنيس الإرهابيين والمجموعات المسلحة التي تسعى دول إقليمية لاحتوائها سياسياً تحت لافتة “التوطين” أو “إعادة البناء”، بعد أن كان سباقاً في إبداء الموقف من النظام العنصري الساقط، كما في كل محطاته.
لم يكن تجنيس الإرهاب في سوريا، في سياق اللعبة السياسية الدولية، مجرد خطوة قانونية أو إدارية؛ بل كان اختراقًا خطيرًا للهوية الوطنية. إذ حين منح النظام السوري- الساقط- الجنسية لآلاف المرتزقة الذين جلبهم من مختلف بقاع الأرض، وأصر على تطويعهم لخدمة مصالحه الخاصة، كان ذلك بمثابة إعلان حرب على النسيج الاجتماعي السوري. حيث لم يكن هؤلاء الأشخاص جزءًا من نسيج الشعب السوري، بل كانوا أدوات تستخدمها قوى خارجية لزعزعة استقرار البلاد وفرض أجندات بعيدة عن تطلعات الشعب السوري في الحرية والاستقلال.
في هذا السياق، وقف المثقف الكردي معارضًا لهذا التجنيس. لم يكن رفضه مستندًا فقط إلى كونه يشكل تهديدًا مباشرًا للهوية الوطنية، بل كان أيضًا نابعًا من تجربة طويلة من القمع والتهميش الذي تعرض له الكرد في سوريا. فقد كانت للقرارات السياسية التي اتخذها النظام السوري أبعاد إنسانية وسياسية عميقة، والمثقف الكردي الذي عانى من تلك السياسات لم يكن ليرضى أن يتحول وطنه إلى أرض مفتوحة للتلاعب بمستقبلها وواقعها الاجتماعي.
ولكن، لم يكن الموقف الكردي المعارض هذا مقتصرًا على الرد على أفعال النظام فقط، بل جاء أيضًا في مواجهة الهيمنة السياسية لحزب العمال الكردستاني على القرار الكردي في سوريا، في فترة ما بعد الثورة السورية 2011، داعماً في الوقت ذاته حقوق كل جزء كردستاني، من دون أي تدخل طرف في شأن الآخر، فحين سيطر الحزب على بعض القوى المحلية وفرض نفسه من دون موافقة ابن المكان الكردي، رأى المثقف الكردي في ذلك تجاوزًا لسيادة خصوصيته، ورفضًا للتدخل في حق الشعب الكردي في تقرير مصيره بعيدًا عن أي وصاية. إذ كان “لا” الكردي في ذلك الوقت، حتى في وجه تدخلات” الأخوة”، موقفًا أخلاقيًا وسياسيًا بامتياز.
وعندما جاء الدور على تجنيس الأجانب من” الإيغور” وغيرهم من المرتزقة الإرهابيين، من قتلة السوريين، تحت تدخلات إقليمية تبحث عن تغيير ديمغرافي في المنطقة. هنا، يُضاف اختبار آخر للمثقف الكردي: هل يمكن أن يتماشى مع لعبة سياسية قد تكون له فيها مكاسب قصيرة الأجل؟ كانت الإجابة حاسمة وواضحة: “لا”. المثقف الكردي يرفض أن تُسحب منه السيادة الوطنية تحت ذريعة الدعم الدولي أو المساعدات الإنسانية.
إنه موقف يتطلب الشجاعة في زمن انعدام الثقة السياسية. فالمثقف الكردي، الذي ظل صامدًا في مقاومته للظلم على مدار عقود، لا يمكنه أن يساوم على الحق الوطني، حتى وإن كانت المساومة ستضمن له مكانًا في المعادلة السياسية الدولية.
من هنا، فإن الوطني الحقيقي لا يساوم، هذه هي القاعدة التي تحكم تصرفات المثقف الكردي. رغم التحديات التي يواجهها، ورغم العزلة التي قد يتعرض لها بسبب مواقفه الحادة، إلا أن المثقف الكردي يظل يصر على أن هويته الوطنية لا يمكن أن تكون مسرحًا للتجارب السياسية العابرة أو صفقات تجارية بين القوى الكبرى. المثقف الكردي الملتزم بشعبه وشركائه، في آن واحد، بخلاف المثقف المدجن أو المثقف الذي يعمل لمصلحة السلطة، يضع الوطن والمبادئ الإنسانية في المقام الأول، إلى جانب أمثاله من المثقفين السوريين، حتى في أحلك الظروف.
الآن، وفي مرحلة التشرذم السياسي التي تمر بها المنطقة، يبقى المثقف الكردي صوتًا حقيقيًا ضد التجنيس السياسي المفضي إلى إضعاف الهويات الوطنية. إنه يرفض أن تكون سوريا أرضًا مفتوحة للسياسات الديمغرافية التي لا تراعي حقوق الشعوب في تحديد مصيرها، ويظل يقاوم فكرة تجنيس الإرهابيين أو التوطين السياسي، لأن ذلك يعني تجزئة المجتمع السوري إلى فئات متناحرة ومتصارعة، وهذا ما يعارضه المثقف الكردي بوصفه جزءًا من هذا المجتمع.

 

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…

شادي حاجي في عالم يتزايد فيه الاضطراب، وتتصاعد فيه موجات النزوح القسري نتيجة الحروب والاضطهاد، تظلّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) طوق النجاة الأخير لملايين البشر الباحثين عن الأمان. فمنظمة نشأت بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت اليوم إحدى أهم المؤسسات الإنسانية المعنية بحماية المهدَّدين في حياتهم وحقوقهم. كيف تعالج المفوضية طلبات اللجوء؟ ورغم أن الدول هي التي تمنح…