إبراهيم اليوسف
ما إن يُبدي أحدهم قلقًا مشروعًا، أو يسلّط الضوء على جرح غائر في جسد الوطن، حتى تتعالى الأصوات المندهشة: “لماذا كل هذا التشاؤم؟ لماذا لا تنظرون إلى النصف الممتلئ من الكأس؟ العبارة التقليدية التي رددت نصف قرن ونيف تحت نير: البعث والأسد. ويستمر هؤلاء قائلين: ألا تروننا قد بدأنا نستعيد عافيتنا؟”، من دون أن يدركوا أن العافية لا تُقاس بإسكات الآخر. إسكات الناقد، بل بعلاج الخلل؟ إذ صارت المواساة الزائفة بديلاً عن مساءلة الخراب، في زمن ديمومة اختلال المعايير؟، ثم ومنذ متى صار النقد الحريص تدميراً، والرغبة في كشف الخلل ضربًا من السوادوية؟
علينا جميعاً أن ندرك أن ذلك الذي يقرع ناقوس الخطر، لا يفعل ذلك ليخيف، بل ليوقظ، لا يمارس السلبية بل يحتفي بالحياة؛ لأنه يرى أن الصمت خيانة، وأن التجميل المخادع جريمة تُضاف إلى سجل الجرائم المؤجلة في حقّ البلاد وأبنائها وبناتها. فمن المعروف أن النقد، حين يُمارَس من موقع الحبّ، لا يكون هدماً، بل إنقاذاً، لأنه يسلط الضوء على مواطن الخلل، ويدعو إلى التصحيح لا إلى التحطيم. هو التعبير الأرقى عن الانتماء، لأنه يرفض استبدال الحقيقة بالوهم، ويرى أن مواجهة الوجع أكرم من التبسم فوق الجراح.
ولا يخفى على أحد أن البلاد التي تنجو فعلاً، ليست تلك التي تحبس أنفاسها في” زجاجة مزخرفة مسدودة بغطاء التفاؤل الكاذب، بل التي تلك التي تجرؤ على النظر إلى ذاتها بلا زينة. أما نحن، فنعيش في واقع مغشوش، بعيون قد تزيّن القبح وتستعيض عن الحقيقة بشعارات مسبقة الصنع، أشبه بمسكنات ملوثة لا تشفي، بل تؤجل الموت. كما أننا قد نقبح ماهو جميل، في ظل غياب المعايير ذاتها.
وبدهي أن الحديث عن عودة الروح ، حين يكون بمعزل عن مؤشرات حقيقية، يتحول إلى نوع من التزييف الناعم، يُخدّر العقول، ويُغري بالصمت المطبق. الصمت المحروس بآلة الرعب ووكلائها الذين من شأنهم الانتشار في كل زاوية وشارع وحي ومؤسسة، لدواع نعرفها جميعاً، كلما تابعنا مسيرة فقاقيع المطر الفصلية التي سرعان ما تختفي مع خفوت الهطل. لكن الحياة لا تُقاس بالحركة فقط، لأن الحركة اعتباطية، لاسيما عندما تكون وقفاً على مشيئة الريح. الحياة تقاس بصوابية الاتجاه. بصوابية البوصلة، وها نحن نتحرك، ولكن هل إلى الأمام؟ هل نحن في المسار الصحيح؟
هكذا يجب أن نسألنا!
هكذا يجب أن نسأل من حولنا ممن نثق بعدم زئبقية رؤاهم!
إذ إن الأخطر من الخراب، في كل محطة. في كل مرحلة، هو التواطؤ معه باسم التعافي. والخوف الحقيقي ليس في صراخ الغاضبين، بل في ارتياح اللامبالين. الذين يرون في كل نقد عداءً، وفي كل صرخة خيانة، أولاء هم من يدفعون بالبلاد نحو هاوية الصمت المطبق أولاء أو أمثالهم كانوا في الصف الأول من جبهة النظام المخيم على صدورنا بضعة عقود خلت. لقد جُرّب هذا الصمت من قبل، حين كان يُطلب منّا أن نغضّ الطرف، وأن نبارك كل انحراف، ونصفّق لكل انحدار، فقط لأنّ البديل كان يُقدَّم على أنه الجحيم. فماذا كانت النتيجة؟
جحيم معلن، شمل البيوت والقلوب والأرواح.
من يُطالِبنا اليوم بالصمت، بحجّة أن “البلد يسير على الطريق الصحيح”، ناسياً أن التطبع مع الفساد والتردّي ليس عودة إلى الحياة، بل هو إعلان قبول بالموت البطيء. فأن نُصبح “بلدًا معافى لا يعني أن نشبه الأسوأ، بل أن نُحسِّن واقعنا ليليق بأبناء هذا البلد الذين دفعوا أثماناً لا توصف، من دمهم وكرامتهم، لعلّهم يرون وطنًا يستحق الحياة.
نحن لسنا خصومًا للتفاؤل. بل نحن حرّاسه الحقيقيون. لا نطلب المستحيل، بل الممكن المشروط بالصدق. نريد خبزًا لا كلمات، أجل، لكننا نريد عدلاً لا بيانات، أملًا لا تخديرًا. وكل من ينتقد لا يسعى إلى الهدم، بل إلى منع الانهيار الأخير.
ولأننا نحب، فإننا نصرخ. ولأننا نؤمن، فإننا نحذّر. إذ ليس من الوطنية أن نربت على الأكتاف بينما الأرض تنزف، وليس من الحكمة أن نغني للغد المشرق بينما الحاضر يطفح ظلامًا. باعتبار أن البلاد التي تخاف النقد، لا تتعافى. والسلطة التي تُعادي الصراحة، لا تبني وطنًا. ولا خلاص من دون مواجهة، ولا إصلاح من غير اعتراف، ولا وطن بلا أصحاب قلوب شجاعة لا تخشى الكلام.
أكثر الذين يطلبون منّا أن “نهدأ”، أن “ننتظر”، أن “نحمد الله على الموجود”، لا يعرفون أن الشعب لم يعد يريد خبزاً فقط، بل يريد كرامته أيضًا. يريد ضمان مستقبله. مستقبل أبنائه. مستقبل أحفاده. لم يعد الشعب عينه يطمح إلى شُرفة في جدار متهالك، بل إلى بيتٍ يبنيه من الحقيقة.
هذا الطريق، الذي لا يُسمح فيه إلا للابتسامات، ولا يُرفع فيه إلا علم التفاؤل القسري، لا يؤدي إلى الوطن، بل إلى مقبرة مفتوحة على حافة الهلاك. ونحن، حين نرفضه، فإننا لا نخون، بل نحاول أن ننقذ ما يمكن إنقاذه. إذاً، فلنقلها كما هي: الوطن لا يُصنع من طوبات الصمت، بل من أصوات تحب بصدق، وتعري الخلل بشجاعة، وتصبر لا لأنها استكانت، بل لأنها مصرة على رؤية الضوء، مهما طال الظلام.
من منا، إذاً، على الطريق الصحيح؟!