خطر الأدوات التركية في سوريا «الإيغور نموذجًا» .. بين الخطة الأردوغانية والترخيص الأمريكي

إبراهيم اليوسف

 

تتسلل وتغوص تركيا في الجسد السوري عبر جملة أدوات معقدة، تتنوع بين المرتزقة المتأسلمين، والمتحمسين العابرين للحدود، وتجار الشعارات. من بين هذه الأدوات يبرز الحضور الإيغوري كأخطر عنصر مزروع في الأرض السورية، ليس بسبب عدده الكبير فقط، بل بسبب خلفيته العقائدية، وشبكة ارتباطاته الممتدة بين الاستخبارات التركية والحركيات العالمية المتطرفة. هؤلاء الإيغور ليسوا لاجئين ولا ضيوفًا، بل جنود مشروع، جاؤوا ليقيموا إمارة عابرة للهويات، ويتخذوا من التراب السوري ساحة تدريب واندماج في خطة تهديد أبعد من سوريا ذاتها.

 وكلنا نعلم أنه في محافظة إدلب، وبالأخص في محيط جبل التركمان وريف جسر الشغور، استوطنت عائلات” الإيغور” ضمن مشروع هندسة ديمغرافية واضح، لم يكن هدفه محاربة النظام السوري فحسب، بل تأسيس نواة لامتداد تركي ـ إسلاموي، يخدم أجندة أنقرة طويلة الأمد. كان لهذا التوطن بعد أمني بالغ الخطورة، إذ تحوّلت تلك البقع الجغرافية إلى بيئة مغلقة غير قابلة للاختراق، خارج سلطة الدولة، وخارج حتى سلطة الفصائل السورية المتحالفة مع تركيا نفسها.

إن ظهور جماعة “الحزب الإسلامي التركستاني” كذراع مسلحة رئيسية للإيغور في سوريا، يشي بالهدف الذي يتجاوز الجغرافيا السورية. فالجماعة تحمل مشروعًا يستدعي الماضي العثماني، ويعيد إنتاجه بلبوس عقائدي تكفيري، يغري تركيا الأردوغانية بتوظيفه سياسيًا، ويدفع الاستخبارات التركية إلى تقديم التسهيلات اللوجستية والحدودية، بل وفتح المعابر الرسمية وغير الرسمية أمام آلاف المقاتلين من آسيا الوسطى، تحديدًا من” شينجيانغ”، تحت غطاء إنساني تارة، و”جهادي” طورًا.

لكن ما يفاقم الخطر لا يكمن في الدعم التركي وحده، بل في الترخيص الأمريكي الضمني لهذا الحضور. إذ إن واشنطن، المنغمسة في توازنات معقدة مع أنقرة، تغض الطرف عن خطورة هؤلاء، بل تبدو أحيانًا كأنها تغازل وجودهم، ضمن لعبة الابتزاز المتبادل بينها وبين أردوغان، وتراهم معادلاً لديمومة التوتر في المنطقة. فطالما بقي هؤلاء يشكلون صداعًا لبكين، يمكن تحويلهم إلى ورقة ضغط في المفاوضات التجارية أو الاستراتيجية مع الصين. وسوريا، وفق هذا المنظور، لم تعد أكثر من رقعة شطرنج لإدارة توازنات خارجية، بلا اعتبار لحقيقة أن هؤلاء المسلحين يهددون النسيج السوري، ويقوضون أي مشروع سيادة.

ولا يغيب في هذه المتاهة اسم المبشر أو المبعوث اللبناني ـ الأميركي: توماس باراك، الذي ظهر في واجهة المشهد بصفته وسيطًا ناعمًا بين المشروع الأردوغاني والعقل الاستراتيجي الأميركي. هذا الرجل، الذي تتقاطع سيرته مع المخطط التركي  ومراكز القرار المشبوهة، تحوّل إلى أداة تفسير مزدوجة: يترجم الخطاب التركي للغرب عبر فلاتر ترامب، ويعيد إنتاجه في الدوائر المحافظة الأميركية بوصفه بديلًا عن النفوذ الإيراني، وخصمًا إيديولوجيًا للنظام السوري الساقط. والأدهى أنه لم يكن مجرد مترجم، بل المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، وسفير الولايات المتحدة في تركيا، والذي بدا يؤدي دور الوسيط التنفيذي لبرنامج تذويب سوريا في المخطط التركي الأردوغاني، بترخيص من العقل العميق الأميركي.

اللقاء الذي تم بينه وبين الرئيس المؤقت أحمد الشرع، الذي قدم لمرحلة “ما بعد الأسد”، ضمن صفقة تبقي تركيا شريكًا مركزيًا في رسم مستقبل سوريا، ولو على حساب وحدة أراضيها أو طابعها العلماني.

وفي هذه المنظومة نفسها، يُطلب من قوات سوريا الديمقراطية، التي تتكوّن من عرب وكرد وسريان وآشوريين وسنة وعلويين وسنة معتدلين، القبول بالذوبان الكامل في مشروع تركي، كارثي، هالك، مدمر- بحسب ما يبدو حتى الآن- والانحلال التدريجي، وتسليم السلاح، والتخلي عن دورهم السياسي والعسكري، تحت غطاء “التسوية”. أما” الإيغور” المرتزقة، الغرباء عن الأرض واللغة والانتماء، فيُراد لهم أن يبقوا كتلة موحدة، منظمة، مسلحة، ومحمية. بل وأكثر من ذلك: أن يُمنحوا الجنسية السورية، وحقوق الاستيطان، وكأنهم جزء من نسيج الوطن، بينما يُمنع الكرد، السوريون الأصلاء، من نيل جنسيتهم التي حُرموا منها بفعل السياسات القومية العنصرية، الناصرية ـ العفلقيّة. ويُلوّح في بعض الكواليس إلى ضرورة طرد هؤلاء الكرد “المواطنين/ الأجانب/ مكتومي القيد” من أرضهم التاريخية، وتهجيرهم لصالح هؤلاء الوافدين الغرباء، خدمة لمخطط التطهير الديمغرافي الذي لم يعد سرًا.

وإذا ما تم هذا السيناريو كما يُخطّط له، فإننا لا نكون أمام تسوية، بل أمام عملية تفكيك مع سبق الإصرار، تُكافئ فيها المجاميع المتطرفة بالشرعية، وتُعاقب القوى الوطنية والمجتمعية بالمحو والإقصاء. إن منح الجنسية السورية لعناصر دخيلة قاتلت الشعب السوري، يحمل استهانة فاضحة بكل ما تعنيه المواطنة من حقوق ومسؤوليات. فهؤلاء لا ينبغي أن يُكافَؤوا، بل  إن مكانهم الحقيقي هو أروقة العدالة الانتقالية، حيث تتم محاسبة كل من تورط في الانتهاكات، بلا تمييز بين نظام ومعارضة، مرتزقة أو فصائل. وأي طرف مسلح واجه المدنيين، أو اشترك في تهجيرهم، أو مارس العنف بحقهم، يجب أن يُحال إلى محاكم عادلة، محلية أو دولية، ليحاسَب وفق القانون، لا أن يُمنح شرف حمل الهوية السورية.

ما هو جد خطير في كل ذلك، أن الحكومة السورية تبدو في موقف الانكشاف الكامل. فالإيغور لا يهددون وجودها العسكري وحسب، بل يؤسسون لكانتون غير سوري، ديني ـ قومي، لا يعترف بالحدود، ولا بالدولة، ولا بالوطن. وجودهم لا يختلف من حيث الخطورة عن مشروع الخلافة الداعشية، مع فارق أن الدعم التركي لهم مفتوح ومستمر، والتغطية الأميركية، وإن كانت مخفية، لكنها واضحة في معناها السياسي.

ومن هنا فإنه، لم يعد ممكنًا تجاهل هذا الخطر المركب. فوجود الإيغور في سوريا ليس شأنًا أمنيًا فقط، بل هو إعلان عداء للهوية الوطنية السورية، وتهديد صريح لسيادتها، ومقدمة لتقسيم جديد، يحمل هذه المرة توقيعًا ـ تبشيريًا مخابراتياً ممهداً أو فاتحاً الأبواب لمرحلة عنف مضاعف، تباركه قوى كبرى، وتسوّقه دوائر عربية وغربية، إما بغفلة، أو عن سابق قصد، كمن هيمنوا على الثورة السورية، بغرض الانتقام من السوريين، ونيل حصتهم في قيادة سوريا، كما هو شأن كل من: تركيا وقطر، وغيرهما، بكل تأكيد!

المصادر والمراجع:
راجع مقال د.محمود عباس “الوجود الإيغوري في سوريا: صراع المحاور وخطورة التجاهل الدولي” (2024)، 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

علي جزيري يُحكى أن (حسان) ابن رئيس «الجمهورية السورية» شكري القوتلي تأخر عشر دقائق عن الدوام المدرسي ذات يوم، بيد أن مدير المدرسة (جودت الهاشمي)، أنّبَهُ وأعطاه كتاباً ممهوراً بختم المدرسة، يطلب فيه ضرورة إحضار ولي أمره، ولبى حسان حينئذ أمر المدير، لكنه عاد إلى البيت مكسور الخاطر، فاستغربت والدته عودة ابنها الوحيد في ذاك الوقت المبكر، وحين…

صلاح بدرالدين مدخلالى جانب الانشغال اليومي بامور وشؤون الكرد السوريين كمهام لها الاولوية من خلال النضال في سبيل رفع الاضطهاد القومي، والاجتماعي، والسياسي عن كواهلهم، واستعادة حقوقهم القومية، والمساهمة في النضال الوطني العام من اجل الديمقراطية، والتقدم، ومواجهة الاستبداد، كان الهم القومي – الكردستاني – لم يفارق مشاعر جيلنا والذي من قبلنا، ليس كموقف سياسي عابر…

إبراهيم اليوسف الوطن في أرومته قبل الخريطة في حبرها أحدهم   لم يبدأ مشروع “الشرق الأوسط الكبير” من مقاعد البيت الأبيض، بل تسرّب ببطء من: غرف التفكير، مراكز البحوث، خرائط الجيوبوليتيك، وأقلام من ظنّوا أن المنطقة لا تستحق حدودًا ثابتة، وفق تصورات القطب الثاني الموازي بل المعادي للاتحاد السوفياتي السابق، كقطب قوي عملاق، قبل انهياره التاريخي. إذ إن…

شيرزاد هواري   تشهد منطقة الشرق الأوسط في المرحلة الراهنة تصعيدات عسكرية متسارعة تقودها إسرائيل، مدعومة من حلفائها التاريخيين، في مشهد يشي بتحولات استراتيجية عميقة. هذه التطورات لم تأتِ من فراغ، بل تبدو كحلقة متقدمة من مسار طويل ابتدأ منذ ما يزيد عن قرن، مع توقيع اتفاقية سايكس – بيكو التي قسّمت إرث الإمبراطورية العثمانية على أسس استعمارية، دون أدنى…