سوريا.. تحديات تؤسس لتجدد الصراع

شــريف علي  

 

تطورات متسارعة في الجغرافيا السياسية السياسية السورية تعكس مرحلة جديدة في المشهد السوري، حيث تتداخل المصالح الإقليمية والدولية في إعادة تشكيل مستقبل البلاد. عبر حزمة تغييرات تتضافر فيها عوامل شتى ومن جهات شتى لعل أبرزها التحركات الدبلوماسية السورية ومحاولات الاندماج الاقليمي ، من خلال التحولات السياسية في المشهد االسياسي الداخلي و إعادة هيكلة عدد من المؤسسات على غرار وزارة الداخلية وإستحداث مؤسسات أخرى ( هيئة العدالة الإنتقالية وغيرها  ) .والتقارب الاقليمي و الدولي عبر القنوات الرسمية وغير الرسمية بمساندة غربية مباشرة وتحديدا الامريكية منها التي انعكست بصورة واضحة في قرار الرئيس الامريكي دونالد ترمب برفع العقوبات عن سوريا شمل قطاعات رئيسية مثل الطاقة، النقل، والقطاع المالي بوصفه منح الادارة الانتقالية فرصة للنهوض بالدولة السورية واثبات قدرتها على تحمل هذه المسؤولية ،وتبعها الاتحاد الاوربي بتزامن مع انعاش الدبلوماسية السورية على المستوى الدولي.

المبرر الترامبي لقرار رفع  العقوبات يحمل في طياته مضامين عدة من منظور الادارة الامريكية بشأن مستقبل الدولة السورية نظاما وكيانا على ضوء الحقائق القائمة وسياسات تثبيت النفوذ وضمان المصالح على الرقعة السورية بجغرافيتها المحددة في سايكس بيكو ، ويأتي في مقدمتها تقويض الثقة الشعبية بالادارة الانتقالية وتفاقم الانقسامات على الصعيدين الاجتماعي والسياسي بما يهدد بالخطر الاكبر المتمثل بتجدد الصراع المسلح وهو ما حذر منه موفد الأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسن مؤخرا أمام الاجتماع الاخير لمجلس الامن الدولي .

التحذير هذا مستند على معطيات ملموسة تنطوي على حالة توتر وعدم استقرار مستدام  تتحمل الادارة الانتقالية الجزء الاكبر منها بالنظر لعدم اية التفاتة من جانبها إلى التحديات التي تواجهها وتحدد مستقبل البلاد بدءا من الخدمات الضرورية كمقومات لحياة المواطن وانتهاء بقضايا الخلاف الطائفية والعرقية والمذهبية مرورا بالمسائل الاجتماعية والاقتصادية والدستورية وما الى ذلك.

و تؤدي إلى احتمال تجدد الصراع في سوريا، مما قد يعزز الانقسامات الداخلية ويمهّد لترسيخ التقسيم كحل عملي، حتى لو لم يكن معلنًا رسميًا. يمكن تصنيف تلك التحديات إلى عدة مستويات

الانقسامات الطائفية والعرقية التوترات بين المكوّنات الاجتماعية، مثل العلويين والدروز، إضافة إلى العلاقات المعقدة بين  الشعبين الكوردي والعربي بمختلف ، تساهم في استمرار حالة الاحتقان السياسي والميداني. هذه التوترات تتغذى على الإرث التاريخي من النزاعات، والتدخلات الخارجية، والصراعات بين القوى المحلية.

التدخلات الإقليمية والدولية لم تعد سوريا ساحة لصراع القوى الإقليمية، حيث تلعب تركيا وإيران وإسرائيل أدوارًا متباينة في رسم معالم المشهد السياسي والعسكري. لكن بات  التنافس الأميركي-الروسي  والاوربي في المنطقة يُضيف تعقيدًا آخر، حيث يسعى كل طرف إلى تعزيز نفوذه في مناطق مختلفة. هذه التدخلات تؤدي إلى استمرار التجاذبات، وتقلّل من فرص الوصول إلى حلول سياسية مستدامة

هشاشة الأوضاع الاقتصادية : الاقتصاد السوري يعاني من تداعيات الحرب الطويلة، مع استمرار العقوبات الاقتصادية والتضخم وانهيار البنية التحتية. حتى مع محاولات التخفيف من القيود الاقتصادية، مثل رفع بعض العقوبات الأوروبية، و الأمريكية تبقى إعادة الإعمار محدودة، مما يزيد من حالة الفقر وعدم الاستقرار التي تدفع الفئات المتضررة نحو خيارات سياسية وعسكرية أكثر راديكالية

غياب التوافق السياسي الداخلي : الخلافات بين الادارة  السورية  الانتقالية والمعارضة، إضافة إلى الانقسامات داخل المعسكرات المختلفة، تعرقل أي محاولات للحل السياسي. فالمبادرات مثل “هيئة العدالة الانتقالية” قد تشير إلى تحركات نحو المصالحة، لكنها تبقى ضعيفة أمام الواقع الميداني المعقد

استمرار الديناميكيات العسكرية: رغم انخفاض حدة النزاع مقارنة بالفترات السابقة، لا تزال الاشتباكات مستمرة، خاصة في المناطق الشمالية والشرقية. والجنوبية والساحلية إضافة الى الضربات الجوية والهجمات المتفرقة  من الجانبين الاسرائيلي و التركي تعيد تغذية العنف وتمنع الاستقرار الكامل، مما يعزز فرضية أن التقسيم الفعلي للنفوذ قد يكون الحل الأكثر استدامة، حتى لو لم يكن هناك إعلان رسمي بذلك مع استدامة مناطق النفوذ الحالية فالحكومة السورية تسيطر على أجزاء واسعة من البلاد، لكنها تواجه تحديات اقتصادية وسياسية .  المناطق الشمالية والشرقية تخضع لسيطرة قوى كوردية مدعومة دوليًا، وسط توترات مع تركيا ، المناطق الشمالية الغربية تحت سيطرة الفصائل المعارضة، خاصة تلك المدعومة من تركيا.  الانتشار الملحوظ لخلايا تنظيم الدولة الاسلامية في عمق البادية السورية  يضاف الى ذلك الوجود العسكري الأجنبي مستمر، سواء عبر القوات الروسية، الأميركية، أوالفرنسية أو التركية، مما يعزز حالة التجزئة.

الدور الاجتماعي والتغيرات السكانية عمليات النزوح والتغيرات الديموغرافية، خاصة في المناطق التي شهدت تغييرات كبيرة في التركيبة السكانية،سواء خلال حقبة النظام البائد اوفترة سيطرة الميليشيات المتطرفة عبر مشاريع ممنهجة استهدفت مكونات رئيسية في البلاد في مناطق تواجدها التاريخية – مشروع الحزام العربي في المنطقة الكوردية ، توطين المهجرين من ريف دمشق في منطقة عفرين  – مما خلق واقعًا جديدًا يصعب العودة عنه، يضاف إليها التغيرات في المدن الكبرى مثل  دمشق وحلب و الحسكة ودير الزور والرقة تعكس آثارًا طويلة الأمد تُكرّس الفصل بين المناطق المختلفة.

في ظل هذه المعطيات، يبدو أن التقسيم غير المعلن قد يتحول إلى واقع عملي، حتى لو لم يكن هناك اتفاق رسمي عليه. وهي عوامل قد تؤدي إلى إعادة تشكيل الخريطة السورية بشكل جذري، حيث هناك العديد من التجارب الدولية التي أدت إلى تقسيم الدول نتيجة للصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية منذ خمسينيات القرن الماضي  .

 فقد تم تقسيم شبه الجزيرة الكورية الى كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية  (1953) نتيجة تدخلات خارجية من جانب القطبين الدوليين، وكذلك تم تقسيم شبه الجزيرة الهندية إلى الهند وباكستان (1947)بناءً على أسس دينية و تشيكوسلوفاكيا(1993) نتيجة لخلافات سياسية واقتصادية بين المكوّنين الرئيسيين للدولة، وإن تم بشكل سلمي ، في حين انقسمت يوغوسلافيا (1991-2006) الى خمس دول مدفوعًا بالتوترات العرقية والدينية، إضافة إلى التدخلات الدولية، مخلفة دمارا شاملا وعشرات الآلاف من القتلى ،وأخيرا انقسام السودان إلى شمال وجنوب السودان  (2011) بفعل  الصراعات العرقية والسياسية، إضافة إلى التدخلات الدولية التي دعمت الاستقلال .                                                                                                

حصيلة القول أن الوضع في سوريا يظل معقدًا ومفتوحًا على عدة سيناريوهات، خاصة في ظل التصريحات الأخيرة للسفير الأمريكي حول الرئيس السوري، فورد الذي  تحدث عن عدة لقاءات مع أحمد الشرع إبان وجوده في إدلب في مارس 2023 ، وذلك في محاضرة ألقاها في 1 أيار الحالي في مجلس بالتيمور للشؤون الخارجية والتي أثارت جدلًا واسعًا ،هذه التصريحات تأتي في سياق التحولات السياسية الإقليمية والدولية، وقال إن ما لفت نظره خلال اللقاءات أن الشرع “لم يعتذر عن العمليات الإرهابية في العراق وسوريا” حيث يبدو أن هناك توجهًا لإعادة تقييم العلاقات مع دمشق في المرحلة القادمة ، مع استمرار الضغوط السياسية والاقتصادية.وتأكيد استمرارية دعمها للمطالب الكوردية المشروعة مع اعطاء الملف الكوردي خصوصية معينة في المشهد السوري ،الأمر الذي جعل التمسك الكوردي بحزمة المطالب التي أجمعت عليها الأطراف الكوردية في كونفرانس قامشلو( 26 نيسان الماضي ) أكثر قوة بالتوازي مع ما تم الاتفاق عليه بين الرئيس الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي ، وهو ما بات يشكل نقطة خلاف رئيسية في المشهد السوري. ففي الوقت الذي ترى فيه القوى الكوردية وثيقتها التفاوضية ضمانة لحقوقها  القومية كشريك ، فإنها تواجه معارضة من الحكومة السورية وبعض القوى الإقليمية. معتبرة هذا الطرح تهديدا لاستقرار المنطقة و يعتمد إلى حد كبير على التوازنات الدولية .بما يضع سوريا في مرحلة إعادة تشكيل خارطتها الداخلية، حيث تتزايد الفجوات بين المناطق المختلفة، سواء على مستوى النفوذ السياسي أو الهوية الاجتماعية. إضافة إلى ذلك، التدخلات الدولية المستمرة، تعزز هذا الاتجاه عبر تكريس مناطق نفوذ متباينة.والمعطيات تشير  إلى سيناريوهات رئيسية يمكن أن ترسم ملامح المرحلة القادمة،

التقسيم: حيث تستمر الفوضى السياسية والعسكرية، مما يمهد لظهور كيانات مستقلة بناءً على الانقسامات العرقية والطائفية،

المصالحة الوطنية: يتم التوصل إلى تسوية سياسية مدعومة إقليميًا ودوليًا، تتيح انتقالًا هادئًا للسلطة وإعادة بناء الدولة ،

الحكومة التوافقية: تشكيل حكومة انتقالية تعتمد على التوازنات السياسية والعسكرية،

استمرار عدم الاستقرار: تبقى سوريا في حالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي،

 لكن جميعها تتوقف بشكل اساسي على وجهات نظر القوى الدولية والاقليمية والمحلية الفاعلة إزاءها ،كونها تتباين وفقًا للمصالح السياسية والعسكرية لكل طرف، ليبقى بذلك مستقبل سوريا مفتوحًا على عدة احتمالات، و يبقى التقسيم الفعلي خيارًا مطروحًا  رغم عدم الاعتراف به رسميًا ما لم يتم التوافق على البديل . وبينما تبقى إمكانية الحل السياسي قائمة، فإن الواقع الحالي يشير إلى استمرارية حالة عدم الاستقرار، مما يجعل السيناريوهات المطروحة متأرجحة بين الحلول الداخلية الوقتية  والتجاذبات الدولية ،لمرحلة قادمة على علاقة وثيقة بتفاهمات دولية حول قضايا خلافية بينها قد تعود الى فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى .

————————–

https://www.basnews.com/ar/babat/885397     

باسنيوز   3 حزيران 2025

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…